بعد ثلاثة عشر عاماً على رحيله سعد الله ونوس والتجربة المسرحية المستمرة | |
بعد ثلاثة عشر عاماً على رحيله سعد الله ونوس والتجربة المسرحية المستمرة من المؤكد أن الدارس أو المطلع على تجارب المسرح السوري المعاصر سيتوقف مطولاً عند تجربة الراحل سعد الله ونوس «1943-1997م» والتي تصادف في 15 من الشهر الجاري الذكرى الثالثة عشرة لرحيله، هذا التوقف الطويل يعود لأسباب عديدة أهمها قدرة ونوس الاستثنائية على التقاط معاناة المواطن العربي، وتحديداً معاناة الفقراء والمضطهدين، وتحويل القهر الكامن في أعماق النفس الإنسانية إلى حالة إبداعية مسرحية.. أيضاً رغبة صاحب «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» في إيجاد أسلوبِ كتابة مسرحية جديدٍ كلياً يعتمد بشكل أساسي على التراث العربي القديم، رغبة منه بإحداث تغييرات جذرية في مجمل المفاهيم المسرحية التي كانت سائدة في ذلك الوقت، من أجل خلق حالة تواصل وتفاعل مع مجمل شرائح المجتمع. وعبر رحلة طويلة في عالم الكتابة والإخراج والتنظير المسرحي، عايش ونوس الكثير من لحظات صعود الحركات القومية والسياسية والاجتماعية المختلفة، والانكسارات التي رافقتها والتي تسببت بالكثير من الصدمات المتلاحقة، هذا ما ظهر بشكل واضح في مجمل الأفكار والشخصيات التي وردت في مجمل مسرحياته. هذه المحطات والمراحل أدت بشكل طبيعي عند مبدع استثنائي مثل ونوس إلى الانتقال ضمن مراحل مختلفة من الكتابة وطريقة التفكير والتعاطي مع القضايا المختلفة، دون الانقطاع أو التغير المفاجئ، إنما التطوير المنهجي المدروس الناتج عن تأرجح ونوس الإنسان قبل الكاتب الذي يتأمل العالم من حوله ودواخله الذاتية النفسية، وبين ونوس المسرحي الذي قضى عمره كله حالماً بتغيير العالم والمجتمع المحيط بالمسرح. مرحلة البدايات الأولى قدم ونوس في بداياته مجموعة من المسرحيات القصيرة نسبياً، تميزت بالعمومية وسيطرة الطابع التجريدي الفكري عليها مثل :«مأساة بائع الدبس الفقير-الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا-الجراد-لعبة الدبابيس-فصد الدم» وغيرها. لم تخرج هذه المسرحيات بشكلها البنائي العام وطابعها الفكري عن الإغراق في الذهنية، وكأن ونوس يتوجه فيها إلى القارئ أكثر منه إلى المتفرج، حيث اعتمد فيها على لغة مغرقة في الشعرية العالية، التي تبتعد عن مفهوم الفعل أو الحدث المسرحي التقليدي. يقول ونوس عن تلك المرحلة: «كنت أكتب مسرحيات للقراءة بالدرجة الأولى، وليس في ذهني أدنى تصور لخشبة المسرح أو رسماً مبدئياً لمجريات العرض وطريقة التمثيل. في تلك المرحلة تأثرت كثيراً بأفكار الفلسفة الوجودية، بعد أن قرأت كل ما ترجم من مسرحيات جان بول سارتر، ولا أخفي تأثري الكبير في مسرحياتي الأولى بما قدمه للمسرح يوجين يونسكو..». مرحلة البحث عن التجديد شكلاً ومضموناً سافر ونوس في بعثة دراسية إلى فرنسا للاطلاع على آخر ما توصل إليه المسرح الأوروبي بالمجمل، في تلك الفترة كانت التجارب المسرحية الأوروبية تهدف جميعها إلى تخليص المسرح وعناصره المختلفة التي تكونه من جميع القيود والأدوات التقليدية.. التقى في تلك المرحلة بالعديد من رواد حركات التجديد في المسرح الأوروبي، وقرأ ودرس بشكل أكاديمي مكثف تجارب بريخت، بيسكاتور، انطونان أرتو وغيرهم، عندها أراد ونوس إيجاد تجارب مشابهة لكنها تنطلق بشكل أساسي من بنية المجتمع العربي الخاصة، مستفيداً من النصيحة التي قدمها له أستاذه المخرج الفرنسي جان ماري سيرو والتي تقول: «من الخطأ الفادح أن تبنوا مسارح على الطريقة الأوروبية، أو أن تقدموا عروضاً مقلدة لما يقدمه الأوروبيون، بوسعكم أنتم بالذات أن تساعدوا التجربة المسرحية على الخروج من الأشكال المتجمدة التي وصلت إليها في أوروبا». هذا ما وضعه ونوس نصب عينيه بعد عودته من فرنسا، ليبدأ مرحلة جديدة من العمل المسرحي، اعتمد فيها من حيث الشكل المسرحي وبنية الكتابة على التقنيات المسرحية الجديدة من المسرح الأوروبي، مثل المسرح التسجيلي عن بيتر فايس والمسرح الملحمي عن برتولد بريخت، والتجارب الارتجالية في بناء النص والعمل مع الممثل مثل تجربة دويجي بيراندللو. أما من حيث المضامين الفكرية والآيديولوجية والفنية، التي أراد ونوس تحقيقها في تجربته المسرحية، فقد بيّنها عندما أصدر بياناته لمسرح عربي جديد، التي أكد فيها أن دور المسرح لا يتجسد في المواكبة الخارجية البعيدة عن العمق لجميع الأحداث الجارية ضمن المحيط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي المعرفي للإنسان العربي، إنما في قدرة المسرح، وجميع العاملين فيه على التعمق في البيئة المحيطة، واكتشاف جميع المشكلات والعوائق التي تعيق تقدم الإنسان، ومن ثم دراستها وتحليلها بطريقة تحليلية علمية موضوعية، وإعادة صياغتها وتقديم الحلول أو مجموعة من المقترحات لتطوير البنية الاجتماعية العربية وتطوير سيرها وتقدمها. أيضاً قدم ونوس في بياناته مفهوم تسييس المسرح الذي عمل عليه كثيراً وقدم عدداً من المسرحيات التي عالجته وجسدته بشكله الأمثل، موضحاً عبرها أن مشكلة المسرح السياسية تكمن في القوانين العميقة والعلاقات المتشابكة الكامنة داخل بنية المجتمع العربي، محاولاً جعل المسرح أداة للتغيير عبر تقديم عروض مبنية على مناهج تعليمية تحفز الجمهور وتقدم له أفكاراً. بالوقت نفسه لم يتخلّ ونوس عن جماليات النص المسرحي وطريقة العرض الجذابة، لأنه بقي مدركاً أن تسييس المسرح يهدف بالدرجة الأولى إلى إيجاد حالة حوارية تواصلية فعالة مع الجمهور، هذا التواصل لا يمكن أن يتم إلا بهدم الجدار الرابع للخشبة المسرحية، واعتماد أسلوب عرض يقوم على كسر الإيهام، ومن أهم المسرحيات التي كتبها في هذه المرحلة: «الفيل يا ملك الزمان، مغامرة رأس المملوك جابر، حفلة سمر من أجل 5 حزيران، الملك هو الملك» في هذه المرحلة ركز ونوس على التراث الشعبي الحكائي، وعلى أسلوب الروي والقص والسير الشعبية والأمثولة كشكل فني في تقديم العروض، رغبة منه في إيجاد العلاقة السحرية التفاعلية مع الجمهور العربي، وكسر جميع الحواجز من أجل إشراك الجمهور في جميع ما يجري على الخشبة. عقد كامل من الصمت والانقطاع عن الكتابة فاجأ ونوس الجميع عندما دخل في عزلة اختيارية امتدت عشر سنوات كاملة «1979-1989م» لم يكتب شيئاً خلالها، وكأنه أصيب بهزيمة نفسية داخلية، نتيجة الهزائم والخيبات المتكررة التي مني بها مجمل المثقفين والمبدعين والتنويريين العرب، أمام تقدم القوى البرجوازية الصغيرة، وظهور شريحة واسعة من مدعي الأفكار التقديمة في المجتمع العربي، الذين كانوا عنواناً عريضاً للفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي. وفي أول خروج له عن صمته قال ونوس في إحدى مقابلاته الصحفية: «إن إشكالية البرجوازية الصغيرة، والتعقيد الذي وسمت به حياتنا المعاصرة، إضافة إلى هزيمة المشروع التنويري الذي كنا نحمله، وكنا نعتقد بصورة أو بأخرى أنه ممكن التحقيق... هذان العاملان، إضافة إلى بعض الأسباب الشخصية هما اللذان أربكاني وجعلاني صامتاً كل هذه الفترة». لكن ونوس لم يقض فترة صمته الطويلة تلك في الفراغ، إنما توقف لتأمل ودراسة وإعادة النظر بجميع ما كتبه ونظّر له سابقاً.. ويقول ونوس عن تلك المرحلة التأملية: «خلال سنوات انقطاعي عن الكتابة، والتي تبدت فيها سراديب الاكتئاب، كنت أعلم أنني لا أستطيع أن أواصل الكتابة إلا بعد مراجعة جدية لما أنجزته، وإلى ما آل إليه المسرح في بلادنا، ومراجعة التدهور الذي أصاب المشروع الوطني.. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى كان علي أن أكتشف أيضاً أن المشروع الوطني، بما يعنيه من تقدم وتحرر وحداثة، لا يقتضي أن نلغي أنفسنا كأفراد لنا أهواؤنا ونوازعنا ووساوسنا وحاجتنا الملحّة للحرية ولقول «الأنا» دون خجل – ولا نعوذ بالله من قول الأنا – بل بالعكس إن المشروع الوطني لا يمكن أن ينجح ويتحقق إلا إذا تفخمت هذه الأنا ومارست حريتها». المرحلة الأخيرة الإبداع الاستثنائي بدأ ونوس هذه المرحلة مع مسرحية « منمنمات تاريخية» مثيراً بنصه هذا جدلاً واسعاً ومحموماً في الأوساط المسرحية والثقافية على حد سواء، جاء هذه النص عام 1993م أي بعد عام واحد من إصابة ونوس بمرض سرطان الكبد الذي بدأ يفتك بجسده النحيل، وكلما اشتد المرض قاومه سعد الله بالكتابة وبالمزيد من الجهد والإبداع الاستثنائي. يظهر ونوس في فيلم تسجيلي للمخرج السوري عمر أميرلاي وهو على فراش المرض يصارع الموت في مستشفى الشامي بدمشق، يتحدث بصراحة متناهية عن كل شيء، وعن سبب إصابته بالسرطان يقول ونوس: «لقد تلقيت صدمة موجعة، لا بل إنها من أكثر الصدمات إيلاماً التي تلقيتها في حياتي كلها، إنها حرب الخليج الثانية التي أعتقد أنها وراء إصابتي بالمرض العضال...» وخلال الفترة الممتدة بين عامي 1992-1997م كتب ونوس عدداً كبيراً من نصوصه ودراساته بمعدل كتابين في كل عام: «هوامش ثقافية - رحلة في مجاهل موت عابر- الأيام المخمورة - طقوس الإشارات والتحولات - أحلام شقية - منمنمات تاريخية - يوم من زماننا - ملحمة السراب» وفي هذه المرحلة تطرق ونوس لمعالجة ما خلّفه النظام العالمي الجديد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفييتي، وتأثيرات هذه التغييرات العالمية على بنية المجتمع العربي، مدركاً بشكل حتمي أن العالم كله قادم إلى مرحلة جديدة لا وجود فيه لأدنى موقع للثقافة بمختلف أشكالها وأنشطتها. ولعل المسرح حسب وجهة نظره هو أحد أهم أشكال الثقافة تضرراً وتهميشاً - نظراً لوسائل الاتصال الجديدة المتطورة التي دخلت حياتنا لتغير من آلية التواصل. قبل أن يفارق ونوس الحياة بأشهر قليلة طلبت منه منظمة اليونسكو العالمية كتابة كلمة يوم المسرح العالمي، لم تكن كلمة طويلة إنما اختصرت أوجاع وهموم جميع المبدعين الحقيقيين في العالم كله، وبالأخص المسرحيين منهم، وعلى الرغم من الوهن والتعب الذي اعترى ونوس وهو يلقي بكلمته جراء تفشي المرض في جسده، إلا أنه أصر على أن نبقى محكومين بالأمل حتى اللحظة الأخيرة!. |
مواضيع مماثلة
دخول
بحـث
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
غزوان قهوجي - 439 | ||||
Rasha - 322 | ||||
ابراهيم الحداد - 160 | ||||
احمد الحرفي - 158 | ||||
Rawane araishy - 86 | ||||
وسام قهوجي - 53 | ||||
مازن الديراني - 27 | ||||
ضياء الخليل - 21 | ||||
همسة حب - 20 | ||||
مصعب خلف - 18 |
سعد الله ونوس والتجربة مستمرة
ضياء الخليل- مخرج نشيط
- عدد المساهمات : 21
نقاط : 10726
السٌّمعَة : 3
تاريخ التسجيل : 07/04/2010
العمر : 39
- مساهمة رقم 1
الإثنين أبريل 01, 2013 8:40 am من طرف غزوان قهوجي
» غزوان قهوجي
الإثنين أبريل 01, 2013 8:36 am من طرف غزوان قهوجي
» مختبر فضا المسرحي
الأربعاء فبراير 13, 2013 8:44 am من طرف غزوان قهوجي
» مهرجان لمسرح الشباب العربي في بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:07 am من طرف غزوان قهوجي
» مهيمنات ( السلطة ) وتنويعاتها الإسلوبية في بعض عروض مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:02 am من طرف غزوان قهوجي
» مقالة جميلة عن مولانا
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:50 am من طرف غزوان قهوجي
» خبر عن مشاركة الفرقة في مهرجان بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:39 am من طرف غزوان قهوجي
» أم سامي
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:10 pm من طرف همسة حب
» حدث في سوريا : دعوى قضائية شد الله !!!!!
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:06 pm من طرف همسة حب
» حكايا طريفة
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:01 pm من طرف همسة حب
» السر بشهر العسل
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:56 pm من طرف همسة حب
» عندما يتفلسف الحمار
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:53 pm من طرف همسة حب
» حكمة : كن نذلا تعيش ملكاً ........!!!
الثلاثاء نوفمبر 06, 2012 2:44 am من طرف همسة حب
» فــوائـد الـزوجــة الـنـكـديــة
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:21 am من طرف همسة حب
» شو كان لازم يعمل ؟
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:18 am من طرف همسة حب