يدلف الممثل من الباب الخلفي إلى غرفة الماكياج في الكواليس، ليتعرف على نفسه أمام المرآة بعد وضع الرتوش الأخيرة كبطلٍ لاحق على الخشبة، يعبر ممراً آخر، ليلقى زميله يدخن سيجارة في زاوية.. مرحباً يقولها على عجل يتفقد إكسسوارته ليسلم نفسه كلياً أمام سطوة الدور.. تراتبية معينة يوقتها الزمن كل يوم تحكي لنا عن خشبة أخرى موازية للواقع.
الكواليس هذه المنطقة الغامضة في ذاكرتنا كمشاهدين والتي قد لا نعرف كما يحصل في غرفها الصغيرة أحداث استثنائية، قصص حلوة ومرَّة لكن انسدال الستارة بعد ساعات من العرض يدعها تدخل مواربة في- منطقة التجاهل وكأن شيئاً لم يحدث لنشاهد عرضاً أول، عرضاً آخر، لمسرح الكواليس في هذا التحقيق
يشعر سمير أبو عساف أنه بعيد عن أجواء الممثلين. هم لهم عملهم ولنا عملنا الخاص بنا ويصف ذلك: هم معجون بالحماس وتوترهم عادة يُشغل المكان كله، أنا أعمل هنا منذ عشر سنوات تقريباً، أذكر حادثة حصلت في الكواليس إن صحّت التسمية لأن المبنى يصبح كله (كالوسٍ) ضخم أثناء البروفات وتحديداً في مسرحية "سوبر ماركت" لأيمن زيدان حيث كنا في استنفار تام ونركب جسوراً حديدية وكتجربة شمس "أحد أعضاء الكومبارس" فوق الجسر حيث يسقط من علو بضع أمتار على خشبة المسرح، ظن من سَمعً صوت الارتطامة وقتها أن عظامه قد تهشمت "لا سمح الله" ولكنه وقف على قدميه غير مصاب بمكروه، في هذه المسرحية بالذات كانت الظروف التي تتم فيها البروفات غريبة، "جلايات البلاط" كانت تقوم بعملها إلى جانب الممثلين في مدخل مبنى مسرح الحمراء، أغلقنا وقتها زجاج الباب الرئيس والنوافذ ستارة سواداء كي لا يشاهد المارة البروفات العجائبية.
أعيدوني إلى الكواليس
أحمد سماطي قد عاصر لحظات مميزة عبر تاريخ مهنته، لحظات انهيار وإنكسارات جسدية على حافة هذا المسرح بالذات يروي لنا شيئاً مما عايشه:
يتعرض الجميع إلى ضغوط هائلة أثناء التحضير للعرض وأثناء العرض نفسه، هذا أمر طبيعي بالنسبة للمهمة الجسيمة التي تقع على عاتق الممثل المسرحي من- إيصال الحالة إلى الجمهور وقد يحصل صدام بين الممثل والمخرج أو ينشأ اختلاف في وجهات النظر في بعض الأحيان وأذكر أن كثيرين خرجوا من الباب المؤدي إلى الخارج، وهم يصحون ويكيلون اللعنات للمسرح ثم يعيدون أدراجهم إلى المسرح لعشقهم للتمثيل بعيد لحظات وكأن شيئاً لم يحدث.
أذكر أن المخرج "عجاج سليم في مسرحية "الغول" من شدة حذره على كل ما يتعلق بالمسرحية من النص والأزياء والإكسسوار كان يمشي بسرعة من غرفة "الكونترول" إلى ما بين المقاعد حتى يصل إلى فوق الخشبة ولم يتمالك نفسه وقتها من الدخول بين أبطال المسرحية وهم يؤدون العرض لتصحيح مكان قطعةٍ من الديكور، حقيقة دخل على أطراف قدميه متماهياً مع الضوء الضيئل ولم يشعر به أحد، لكن مدير المسرح وقتها كان قد استشاط غيظاً، ومع انتهاء العرض عاتبه بشدة، والقلوب النظيفة لا تحتاج إلى صابون العتاب ليغسلها فمضى الأمر على خير لكن ذعرت حقاً في مسرحية "ماكيت" حين نادوا علي بأن أتي بسرعة إلى الكواليس، لأتفاجأ بأن "تولاي هارون" قد أغمي عليها قبل دخولي بلحظات، وهذا على فكرة يحدث كثيراً مع الجنس الناعم من المشتغلين بالمسرح، حيث لا يحتملن شدة الضغط النفسي، ركضنا بها أنا وزملائي عبر الدرج وبعد أن عبرنا منتصفه تفتح "تولاي" عينيها الوديعتين لتقول: أنا على ما يرام أعيدوني إلى الكواليس..
هنا عمري وبيتي
ولا يحتكر الممثل وحده حب الفن والمسرح الأصيل بل يتعداه إلى "ميشيل جبور" عامل البوفيه في مسرح الحمراء منذ أكثر من أربعين عاماً يصفها بأنها سنوات عمره الجميلة،وفي الزمن الجميل الذي يذكره ميشيل يقول: أحب المسرح فيه تفتحت ذهنيتي على مبادئ الفن وصناعته، والطاقة الإيجابية كانت تلف المكان وتربط الأفئدة على عقد الصداقة النبيلة وحب بعضهم لبعض لقد كانت الأصالة تتجذر في نفوس الفنانين الذين مروا من هنا أكاد أعيش حلماً الآن وأنا أستعيد بذاكرتي العظيم "فواز الساجر" في مسرحيته "ليلة مع أبي خليل القباني" لقد اضطررت وقتها إلى إغلاق الباب الرئيس من شدة ضغط الجمهور المتدفق لحضور المسرحية؛ لقد ساعدت الكثير في حياتي وهم يحضرون أدوات العرض وعلى الخشبة أذكر "الساجر" جيداً وهو يتحرك بهدوء بين الممثلين مهتماً بأدق التفاصيل، يشد من عزمهم ويذكّرهم بأدوارهم والحركة على الخشبة، سامحوني قد كنت أحترم هذا الرجل كثيراً، ولهذا هو يعيش في الذاكرة تعلمتُ ما معنى المسرح من عينيه، وهو يجتمع بكل ممثل على حدة قبل دخوله بلحظة.
صحيح أن مهمتي كانت تقديم الشاي والقهوة إليهم في الاستراحة وبين المشاهدين لكنهم يجتمعون في مكاني بعد انتهاء العرض فأستمع إلى الملاحظات والتقييم مع الإشارة إلى أهم المشاهد من وجهة نظرهم، إلى جانب استمتاعي بمناقشاتهم.
أذكر أن الفنان عبد اللطيف فتحي قبل العرض بنصف ساعة حين اضطررنا إلى أخباره بأن أمه قد توفيت في المشفى كان موقفاً صعباً، لكن "عبد اللطيف" بعد أن سمع الخبر صمت دقيقتين وخرج إلى المسرح ليسأل الجمهور سلوانهم له وهو متأسفاً لأن روح أمه الطاهرة في ملكوت السماء ولم يكن باستطاعته اللحاق بها في المستشفى لأن لديه موعداً مقدساً مع الجمهور الذي صفق له طويلاً قبل العرض وبعده هنا قضيت عُمري- وهنا بيتي وما يزال حتى موعدٍ مجهول مع المنية.
النوم في الكواليس أيضاً
مسرح الحمراء الذي صار بيتاً يتسع لذكريات وأحلام "ميشيل" كانت كواليسه هي المفضلة لدى المخرج المسرحي (محمود خضور) عاش فيها أكثر مما عاش في ضيعته البعيدة يقول:
إن الكواليس من وجهة نظري هي الاختبار الأهم للمثل، لأن ما يتعرض له هناك أشد زخماً مما يحدث على الخشبة، وهو في وضع الاستعداد لدخول المسرح، يدق قلبه بقوة، ويكاد يشعر بنفسه ينهار من التوتر والانفعال مذعوراً من كابوس ظالم بأن تنمحي من ذهنه سطوره الخاصة، فيروي خضور: خلال مسيرة عملي على المسرح حوادث عديدة قد صاد فتها في الكواليس أو خلف المسرح حيث لا يشاهده الجمهور منها ما هو مكرر مثل أن ينسى "مدير المنصة" نفسه في غرفته أثناء الاستراحات وبالتالي ينسى الممثلون أوقات الدخول إلى مشاهدهم فنهرع إليه ونفتح الباب لنراه إما نائماً أو هائماً في دخانه!!
أذكر مثلاً في مسرحية "زيارة الملكة" أن التعب أخذ نصيبه من أجساد أكثرمن خمسين ممثلاً وممثلة قد تهاووا على المقاعد أو استلقوا على المسرح حيث كان المشهد القادم من البروفة هو مشهد قدوم الملكة الذي يستوجب الكثير من التهليل والحماس الذي افتقدوه كلهم فما كان مني بعد صراخ دام طويلاً آخذاً عصا من غرفة الأزياء لأهددهم بها مطالباً بأداء المشهد، نهض الشباب والصبايا وقتها وأخذوا يتخبطون ببعضهم باحثين عن سلال الورد وأثوابهم وإكسسوارات الآخرى، لم أكن أسمح لنفسي بأن أرتاح وهم متمادون في وقت الراحة المخصص لهم..
كعبها العالي
ويضيف الأستاذ خضور قائلاً:
"من عاداتي في العرض أن لا أبدأ البروفة، أبداً قبل وجود الجميع مهما كانت أسباب المخرجين الآخرون لا يفعلون هذا بالضرورة لكن هذه عادتي وحدث مرة أن جلست منتظراً أكثر من ساعة حضور الممثلة، بطلة المسرحية وحين وصلت إلى حدود نفاد صبري- اخترق السكون طقطقة الكعب العالي لتدخل الممثلة الهوينى وتجلس بكل هدوء على الكرسي لتقول: ما بكم لم العجلة أصلاً..؟ كان الغضب يقدح شرراً من عيون كل الطاقم ولا أعلم إلى اليوم من أين جاءت هذه الصرفة الرهيبة التي وجهتها اخرجي الآن... لا أريد أن أراك حتى على المسرح؟؟ كنا نعمل في الماضي وكأن صاعقة كهربائية قد ضربت نفوسنا فاشتعلت الخشبة بالحركة واالنشاط لا نعرف تكاسلاً أو تقاعساً.
سكنت المسرح
علي النوري حارس مسرح القباني أمين على ذاكرة المسرح والخشبة المقدسة في انشغالها بالعمل والإبداع وبساكينها من فن وفنانين يقول: أبدأ نهاري كل يوم وكأنه يوم من زمان سعد الله ونوس- بكل تفاصيله المثيرة، يحرض مخيلتي حضور "كاليغولا في الأزقة" جهاد سعد 1986 لأفتش عن حلول بديلة كي لا أضطر يوماً المضي من هنا.
صرت من سكان مسرح القباني الدائمين، تماماً مثل "سكان الكهف" فواز الساجر 1988، إن عمري الذي انقضى في الممرات والغرف الخلفية والكواليس كأنه "رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة" فواز الساجر 1988"
يطفئ أحد العمال أضواء المسرح ليشعل الممثل ضوء الغرفة الصغيرة في الكواليس يسقط من المرآة ضوء ذهبي حزين وبعد انتهائه من نزع الماكياج يفتح الخزانة ويضع فيها أثوابه والتيجان عباءة النبي وعصا الحكيم سلة المجنون وسيف المحارب الشديد الذي لم يره أحد وهو يبكي..
الإثنين أبريل 01, 2013 8:40 am من طرف غزوان قهوجي
» غزوان قهوجي
الإثنين أبريل 01, 2013 8:36 am من طرف غزوان قهوجي
» مختبر فضا المسرحي
الأربعاء فبراير 13, 2013 8:44 am من طرف غزوان قهوجي
» مهرجان لمسرح الشباب العربي في بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:07 am من طرف غزوان قهوجي
» مهيمنات ( السلطة ) وتنويعاتها الإسلوبية في بعض عروض مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:02 am من طرف غزوان قهوجي
» مقالة جميلة عن مولانا
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:50 am من طرف غزوان قهوجي
» خبر عن مشاركة الفرقة في مهرجان بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:39 am من طرف غزوان قهوجي
» أم سامي
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:10 pm من طرف همسة حب
» حدث في سوريا : دعوى قضائية شد الله !!!!!
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:06 pm من طرف همسة حب
» حكايا طريفة
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:01 pm من طرف همسة حب
» السر بشهر العسل
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:56 pm من طرف همسة حب
» عندما يتفلسف الحمار
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:53 pm من طرف همسة حب
» حكمة : كن نذلا تعيش ملكاً ........!!!
الثلاثاء نوفمبر 06, 2012 2:44 am من طرف همسة حب
» فــوائـد الـزوجــة الـنـكـديــة
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:21 am من طرف همسة حب
» شو كان لازم يعمل ؟
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:18 am من طرف همسة حب