مسرحية
ثامن أيام الإسبوع
تأليف : علي عبد النبي الزيدي
الشخصيات
- الدفان
- الرجل
- موظف استعلامات المقبرة
- المكان : مقبرة
- ( موظف استعلامات المقبرة ) : يجلس وراء طاولة عليها مجموعة كبيرة من الاضابير والسجلات
- ( الرجل ) : داخل كيس كبير وضع في وسط المكان
) - الدفان ) : يحفر بمسحاة
- الرجل يتحرك داخل الكيس ، الدفان مستمر بالحفر ...
- يخرج الرجل من الكيس ، الدفان لا يثيره خروجه من الكيس .
الرجل : ( بصعوبة ) هل من ماء ؟
الدفان : ( يحفر بصعوبة )
الرجل : أشعر بعطش شديد .
الدفان : ( مستمرا بحفره )
الرجل : ( ينظر الى الحفرة ) يمكنني مساعدتك .. مقابل ان اشرب
الماء .
الدفان : ( يتوقف ) حقا ؟ أ يمكنك ذلك ؟ ( يعطيه المسحاة ) تفضل
احفر إذا سمحت .
الرجل : ( ينزل الى الحفرة ) أحب دائما أن أساعد الآخرين ( يحفر)
الدفان : كم أنت طيب . حاول أن تكون دقيقا يا عزيزي .. إنها
قياسات مهمة جدا .
الرجل : إنني احفر بصعوبة .
الدفان : احفر ، احفر ايها الطيب جدا ...
الرجل : وهل سنجد الماء ؟
الدفان : كل الذين حفروا هنا وجدوه ! احفر ...
الرجل : ( مستمرا بحفره ) منذ متى لم تشرب الماء ؟
الدفان : لا أتذكر .
الرجل : لا أرى أثرا له .
الدفان : احفر يا صديقي .. عملنا يتطلب الصبر والقوة . احفر .
الرجل : والى متى اظل احفر ؟
الدفان : الى ان تصبح الحفرة بالقياسات المطلوبة . يا لطيبتك التي
اخجلتني .
الرجل : شكرا لك . وهل سيخرج ؟
الدفان : كل شيء سيخرج من هنا !
الرجل : ( مستمر بالحفر ) اشعر ان الحياة قد أتعبتك كثيرا .
الدفان : الأحياء .. هم الذين يتعبونني دائما . إنهم لا يدركون ماذا
يعني الموت !
الرجل : هه .. فهمت ، انك رجل فلسفة .
الدفان : فلسفتي : إن علينا العيش بعيدا من هنا !
الرجل : أتعرف ؟ لقد أحببتك كثيرا .
الدفان : أتعرف ؟ وأنا كذلك .
الرجل : ( وهو يحفر ) ولكن أين الماء ؟
الدفان : ( ممتعضا ) ماء ، ماء ، ماء .. أي ماء ؟
الرجل : في هذه البئر !
الدفان : بئر ؟ بئر في هذا المكان ؟ كيف ؟
الرجل : هذه البئر التي تحفرها .
الدفان : من قال ذلك . هي حفرة ليس الا ، احفر ، استمر بالحفر .
الرجل : ( يتوقف عن الحفر ) حفرة ؟!
الدفان : إنها حفرتك حفرتك حفرتك حفرتك أيها الميت !
الرجل : حفرتي ؟ أيها الميت ؟ من تقصد ؟
الدفان : لا أحد هنا سواك .
الرجل : وماذا افعل بها ؟
الدفان : تفعل بها ؟ قبرك ، انها قبرك .
( الرجل يترك الحفرة ، موظف استعلامات المقبرة يأتي مسرعا الى الرجل ، يرشه بماء الورد ، ثم يقوم بإشعال الأبخرة ، ومن ثم يمشط له ، بعدها يعطيه وردة صغيرة وينصرف الى طاولته )
الرجل : ماذا يحدث هنا ؟
الدفان : ها أنت تستعد للدفن ( يشمه ) ما أطيب رائحتك .
الرجل : ( يضحك بشك ) كف عن هذه اللعبة واعطني قليلا من الماء الدفان : اطمئن .. ستكون حفرتك واسعة ومريحة .
الرجل : تبدو لصا .
الدفان : أملك قلبا يسع لكل تصريحات الموتى .
الرجل : من أنت ؟
الدفان : سترجع أيها المرحوم الى تلك الحياة الجميلة هناك ، كلنا
سنرجع ...
الرجل : من وضعني داخل الكيس ؟
الدفان : هكذا جاءوا بك .
الرجل : من هؤلاء ؟
الدفان : أحب دائما ان لا استفسر عن أشياء لا تهمني .
الرجل : ( يتفحص المكان ) ولماذا أنا هنا ؟
الدفان : ( يضحك ) واين تدفن الجثث يا عزيزي ؟
الرجل : في في في في في ... ولكنني مازلت حيا .
الدفان : عليك ان تستعد للدفن ..اترك هذه الاوهام . كما ترى بعد ان
تكتمل حفرتك سيكون كل شيء جاهزا لمراسيم دفنك ، انظر
الى حفرتك السعيدة .. انظر اليها ، هنا ستنام بهدوء ( يشير
الى الحفرة ) ومن هنا ستهاجمك جحافل الدود ، ستبدأ بعينيك
أولا ، ما أروع ذلك ، عظامك ستنتشر هنا وهنا وهنا . لن
اسمح لاي كلب بان يجرك من حفرتك ، لا أخفيك سرا ..
كلاب المقبرة هنا لها القدرة على إخراج الجثث من عمق
مائة متر !
الرجل : ( يتفحص المكان ) اشعر أنني في مقبرة ، أو هي شيء من
هذا القبيل .
الدفان : ليلة البارحة رأيت عشرة كلاب تجرجر فخذا ، أشعر بالعار
والخزي لأنني لم استطع انقاذه ( يهمس باذنه ) خفت ان
اكون انا الآخر فخذا لأنيابها !
الرجل : أكل هؤلاء موتى ( يشير الى القبور ) زحام شديد ، أين
يمكن ان اكون ؟
الدفان : حدثني احد الكلاب .. ان توزيع الجثث يتم بطريقة غير
عادلة ...
الرجل : ( ينادي ) هل من احد هنا ؟ هـــــــي .. أنتم ...
الدفان : ( متواصلا ) أنا ادعو دائما الى المساواة ، لا فرق عندي بين
كلب وآخر ، نحن أسرة واحدة متماسكة ، كل مشاكلنا نحلها
بالنباح ، اقصد بالطرق الديمقراطية ، بالحوار مع الاخر ،
بالشفافية ، بالمصادقية ، بالمظاهرات السلمية ، بالاحشاء ،
بالعظام بالاعتصامات ، بـ ....
الرجل : قبور ، موتى ، جثث ، سراديب .. من انت ؟
الدفان : أنا أقدر تماما كل الكلاب ، ماذا تفعل عندما يداهمها الجوع ،
الجثث هنا منتشرة وبكثرة ، عندما تكون سببا في انقاذ
كلب ، فهذا يكفي لان تشعر بالكبرياء .
الرجل : وما الذي تريده مني ؟ لغتك لا افهمها .
الدفان : اطمئن ، سأحرسك حتى يأكلك الدود وينتهي ، لا يمكن ان
نعقد مقارنة بين الدود والكلاب ، الفرق شاسع بالمفهوم
الانساني .
الرجل : هل نمت كثيرا ؟ واين كنت ؟ في أي يوم نحن ؟
الدفان : في يوم جميل وسعيد .
( موظف الاستعلامات يقوم بقياس حجم الحفرة ، بعدها يقيس طول الرجل وعرضه ، ثم ينصرف ليسجل الارقام في سجل كبير جدا (
الرجل : من أنت ؟
الدفان : د .. فـ .. ا .. ن ...
الرجل : دفان ؟ دفان لمن ؟
الدفان : سؤال تافه . لموتى هذه المقبرة ، العمل متوفر هنا ، اعرفهم
كلهم بأسمائهم وتواريخ دفنهم ، هذان الذراعان تشرفتا بحفر
جميع هذه القبور ( يشير الى القبور ( .
الرجل : أ تسمح أن تقول لي .. كيف اخرج من هنا ؟
الدفان : تخرج ؟ من أين ؟
الرجل : من مقبرتك .
الدفان : الى اين ؟
الرجل : الى بيتي ؟
الدفان : الموتى لا يخرجون من هنا أبدا .
الرجل : لست بميت .
الدفان : كل الجثث تحاول الفرار من قبضة الموت بحجة الحياة .
الرجل : ولماذا ترفض أن أكون حيا ؟
الدفان : الحفرة هي عالم الأحياء الأبيض ، الهادئ ، الجميل ،
الرحب...
الرجل : إذا كان الأمر هكذا لـــم لا تدفن نفسك ؟
الدفان : ومن يدفنكم أيها الأحبة ؟ من يهيل التراب الناعم على
أجسادكم الرقيقة ؟ من يحرسكم من الكلاب ؟
الرجل : أنا افعل هذا بدلا عنك .
الدفان : لا يمكن .. انك لا تعرف حتى كيف تمسك المعول ، لايمكن
أن تكون دفانا ، هذا العالم ليس بعالمك على الإطلاق ، دع
الحياة الحقيرة لنا نحن الحقراء واذهب الى النعيم .
الرجل : لا أتذكر سوى أنهم أخذوني وانا نائم على سريري ، ولا
اتذكر سوى سياطهم التي زرعوها في جسدي ، بعدها نسيت
حتى اسمي .
الدفان : ما اروع ذلك ! ماذا فعلت لهم لكي يأتوا بك الى هنا ، يدك
الناعمة ( يلمسها ) ما اجمل هذا الخاتم !
الرجل : لم ارث من أبي سواه .
الدفان : دفنك لا يعني إطلاقا دفن تراث الآباء معك ، انا احترم تراث
الشعوب .
الرجل : لغتك الباردة تبحث دائما عن حكايا ساخنة ، هل ابدو حكاية
ايها الدفان تتسلي فيها وتطفئ بها رغباتك المستعدة لدفن
العالم كله .
الدفان : انها لغة خاصة ، خاصة ، لكوني من عائلة مقبرية مهنتها الدفن ، نولد في المقابر ، بين القبور تضعنا أمهاتنا ، نَدفنُ ونُدفنَ
فيها ، جدي كان دفانا بارعا .. الجثة يقوم بدفنها بلمح
البصر ، أبي كان فنانا في دفن الجثث الجماعية ، أولادي
توزعوا على مقابر المدينة كلها ، يؤدون دورهم الإنساني
والجليل خدمة للإنسان وتطلعاته الحفرية. الرجل : عائلة
مشرفة . والآن هيا أخرجني من هنا ، لا تكن قاسيا هكذا
(يصرخ به ) أنا عطش جدا .
الدفان : والدفن ؟
الرجل : دفن من ؟
الدفان : دفنك !
الرجل : ( يضحك ) ما زلت حيا صدقني .
الدفان : ولــم لا تصدق انك ميت ؟
الرجل : تعال واسمع نبضات قلبي ، اسمعها .
الدفان : أكاذيب لن تنطلي عليّ .
الرجل : كما ترى وتسمع ، اتحرك ، اتكلم ، افعل أي شيء تريد .
الدفان : كل هذه الجثث ( يشير الى القبور ) كانت تتحرك ، تتكلم ،
لكنها في نهاية المطاف دفنت ، دفنت يا جنازتي العزيزة .
الرجل : الموتى لا يتكلمون .
الدفان : تخريف ، كل ليلة أسهر انا وهؤلاء الموتى ، نعقد حوارا ،
نتجادل ، نتشاجر ، نغني ، نرقص ، هم الأحياء فقط ،
فقط ... !
الرجل : أ يحدث هذا كل يوم ؟
الدفان : في مثل هذا اليوم فقط ، يأتونني بجثة طازجة ، يعطونني
أجرة الدفن وينصرفون ، كثيرا ما تركوني بلا أجرة ، لكنني
كنت آخذ أجرتي بطريقتي الخاصة .
الرجل : أجرة ، ميت ، جنازتي ... لــم لا تدعني اخرج بدلا من
هذه الثرثرة ؟
الدفان : يا للحزن .. نسوك بلا أجرة دفن !
الرجل : إنني اخاطب فيك انسانيتك ، قد تبدو انسانا .. أخرجني من
هنا .
الدفان : يترتب على هذا النسيان ان أبيع أحد فخذيك ، أو ذراعيك
( يتفحصه ) لاشيء فيك مغر ، ملابسك رثة ، ربما افكر
كيف استفيد من احشائك او الصالح منها للعمل .
الرجل : أ لديك خريطة للطريق ؟
الدفان : تخريف آخر .. أسمعت بجثة هربت من قبرها ؟ شيء
مضحك ( للقبور ) هل سمعتم انتم بذلك ؟
الرجل : كيف اثبت لك بانني لست بميت ؟ هل انت اعمى ؟ حسنا ،
ما رأيك بالصراخ ، سأصرخ ( يصرخ ) آآآآآآووووو ..
ها ما رأيك ؟
الدفان : انظر الى هذا القبر ( يشير الى احد القبور ) ظل صاحبه قبل
ليلتين يصرخ حتى الفجر وهو يركض هنا ويركض
ويركض ويركض ودفنته وهو يركض .. كانت دفنة تراثية
الرجل : لا تملك سوى مفردات لا تلتقي بما يحمل رأسي من
مفردات، كيف احاورك ؟( يهمس له ) ما رأيك ببعض النقود الدفان : أجرة الدفن تقصد ؟
الرجل : لا .. انها من اجل ان اخرج من هنا .
الدفان : رشوة ؟
الرجل : أتعابك .
الدفان : شكرا لأساءتك .. هذه هي نهاية العالم ، لتتهدم كل القبور ،
لينهض الموتى القدماء .. لكي يروا باعينهم التي اكلها الدود
الى أي قعر سحيق وصلت اليه اخلاق الموتى الجدد ، رشوة؟
أ يمكن لمثلي ان يخون شرف مهنته ؟ ( يبكي بقوة )
الرجل : ماذا ينفعك وجودي هنا ؟
الدفان : ( يتوقف عن البكاء ) لا تهمني المنافع الشخصية بقدر ما
يهمني واجبي . لقد وجدت هنا لكي أدفن ، ووجدت انت هنا
لكي تدفن ، انا وانت كالقطة والخروف لا نستطيع ان
نستغني عن بعضنا الاخر .
الرجل : قطة وخروف ؟! ابحث لك عن لعبة اخرى ارجوك .
الدفان : أيرضيك ان اصبح عاطلا عن العمل ؟ لا يرضيك . اذن
ادخل حفرتك بهدوء ايها المتوفي .
الرجل : تتكلم بجدية ؟
الدفان : كلكم تتصورونني مهرجا .
الرجل : لن اسمح لك بلمسي .
الدفان : لن ألمسك ، بل سأدفنك ، أدفنك برفق ، لن تشعر بثقل التراب الرطب ، اخترت لك وسط هذا الزحام الخانق حفرة تليق بك . الرجل : إذن أنت جاد فعلا في دفني حيا ؟
الدفان : حيا ؟ لــــم هذه الصورة البشعة التي ترسمونها لي ، انا
اعمل فقط ، هذه هي طبيعة عملي ، كيف أدفنك حيا ؟ كيف ؟
في حياتي الحفرية كلها لم أجرؤ على دفن فأر واحد ما زال
على قيد الحياة .
الرجل : حاول فقط ان تتأكد من صحة معلوماتك ، أنا ارفض أن
أكون ميتا ، وسأظل ارفض وارفض وارفض ...
الدفان : من حقك جدا ان ترفض يا صديقي الميت ، حقك ، ارفض ،
ارفض وبصوت عال ، ولكنها مضيعة للوقت ، انك لا
تحترم الوقت ، والى مَ تظل رافضا يا ميتي ؟
الرجل : الى ان اجد نفسي حيا .
الدفان : لن تجدها ايها المرحوم ، كريهة هي الحياة ، لها رائحة لا
تطاق . الكل موتى يا عزيزي .
الرجل : انهم احياء .. لكنك تتخيل ان كل شيء ميت لانك انت
الميت، لانك لا تريد ان تخرج من مفردات هذه المقبرة ،
لانك لا تدري ان هناك حياة خارج هذا المكان ، لانك لم
تسمع يوما بالعصافير ! لانك ...
الدفان : كلمات سمينة قد تؤدي الى غسل دماغي الوسخ ( بحزم )
اسمع .. فضل كبير مني ان يجد امثالك شبرا واحدا في هذه
المقبرة ، انظر ، اضطر دائما ان ادفن جثة فوق جثة فوق
جثة فوق جثة . لا احد يقدر هذا العمل المبدع ابدا .
الرجل : سأموت من العطش ايها المبدع .
الدفان : وهذه من ضمن الاشياء التي تتخيلها !
الرجل : كيف أتخيل العطش ؟ كيف ؟
الدفان : كل من يدخل الى هذه المقبرة فهو ميت ويلزم دفنه بسرعة .
الرجل : ( صارخا ) انا حي ، وسأظل حيا ، وسأصرخ بانني حي ،
حي ارزق ، انا حي حي حي حي حي ...
الدفان : تعودت ان اسمع هذه المفردة البائسة ( بامتعاض ) حي .
الرجل : أحملك المسؤولية كاملة في محاولة دفني حيا ، انا املك
الرغبة بالاستمرار ، هل تفهم ؟
الدفان : يا للحزن .. انت تريد الاستمرار ، وهؤلاء ( يشير الى
القبور ) كانوا يريدون الاستمرار ( يصرخ به ) وانا اريد
الاستمرار .. فمن يدفن اذن ؟ من ؟ هل تبقى المقابر بلا
قبور؟ بلا جثث طرية طازجة ؟ أ ترضى ويرضى ضميرك
الميت ان يموت الدود جوعا لا لشيء سوى انك تريد
الاستمرار ( يبكي ) ألا تملك ذرة رحمة في قلبك ؟
الرجل : ( مع نفسه ) يبدو انني في ورطة كبيرة .
( يقفز موظف الاستعلامات مسرا ، يسلم الدفان كفنا )
الدفان : عليك الان ان تخلع ثيابك وترتدي كفنك بنفسك .. هل هناك
اعظم من هذه الحرية ؟ هل هناك انبل من احترامي لحقوقك
الخاصة ؟ هل وجدت يوما في حياتك من يحاورك ويحترم
افكارك ؟ خذ كفنك .
الرجل : لست بحاجة الى كفن .
الدفان : لا يمكن ان تدفن عاريا ، ألا تستحي ؟ خذ كفنك وكن
مرحوما عاقلا .
الرجل : ( بتقزز ... ) ابتعد عني ، ابعده ...
الدفان : الحرية ان تحترم افكار الاخرين . عنادك يضحكني ، انه
رداؤك الجميل .
الرجل : ابتعد ، لا تلمسني ، انك تثير قرفي ، ما اقذرك ...
الدفان : شكرا لهذا الاطراء .. جثة متعبة .
( يعطي اشارة الى موظف الاستعلامات الذي يهب بغضب شاهرا معوله ، يهدد به الرجل تارة واخرى يحاول ضربه)
الرجل : سيضربني ...
الدفان : ستخلع ثيابك قطعة قطعة وبهدوء .
الرجل ): صارخا به ) حتى ثيابي تختارها لي وبذوقك انت .. ابتعد
عني .
الدفان : سأعد من الواحد الى الواحد .. بعدها يغرز معوله في
صدرك ، اود ان اهمس في اذنك : ان المعول سيخرج من
ظهرك مباشرة .
الرجل : لا أريد ان اخلع ثيابي .. لا اريد .
الدفان : تخجل ؟
الرجل : لا اريد فقط .
الدفان : سأعد ...
الرجل : انتظر قليلا ، فقط اسمعني .
( موظف الاستعلامات يحاول الهجوم عليه رافعا المعول )
الدفان : سأعد ...
الرجل : لا تعد ، توقف ، حاول ان تفهم .
الدفان : سأعد ...
الرجل : سيضربني هذا الارعن .
الدفان : سأعد ...
( الموظف يهم بضربه)
الرجل : ســ .. سأخلع ( يصرخ ) سأخلع ، سأخلع ملابسي ، سأخلع من اجل ان تظل انت مرتديا ثيابك .
الدفان : قطعة قطعة وبهدوء ...
الرجل : ( يبدأ بخلع ملابسه بألم واضح ، يرميها غاضبا ، موظف الاستعلامات يجعله يرتدي الكفن بطريقة عنيفة )
الدفان : انك الان ميت حقيقي ، جنازة غادرت عالمها المزيف ،
التافه الى عالم البياض. ارقصي يا جثتي رقصتك البرزخية
، ولترقص معك كل الجماجم والعظام والاعمدة الفقرية ،
ارقصي ايتها المقبرة .. ها هو ابنك الجميل قادم اليك .
اعزفي يا شواهد ، غنّي ايتها القبور .
( موظف الاستعلامات يجمع ملابس الرجل ويعود الى مكانه)
الرجل : لا افهم قاموس كلماتك ، باية لغة يمكن ان اتحدث معك ؟ لم
اكن لأكون هنا ، ولم اكن لتكون روحي ما بين مسحاتك
والمعول ، اتركني انا وقدميّ نمشي بلا توقف ، نبحث ،
نصرخ بلا اوراق رسمية او تبعات .
الدفان : أشم رائحة خطورة في كلماتك ، رفض ، احتجاج ، استنكار
.. لابأس . لنتحدث بما هو اهم : ماذا تقترح ان نأخذ منك
بدل اجرة الدفن ايها الفقيد الراحل العزيز ... ؟
الرجل : كفّ عن اطلاق الصفات كما تشاء .
الدفان : لقد مللت الاذرع والسيقان ، وسئمت الجماجم والعظام ،
وكرهت الاحشاء والبلاعيم ، لا تقل لي خذ كلية او عينا او
معدة .. مللت من كل هذا ( ينظر الى اصابعه ) هل تسمح
بأن ألقي نظرة على اصابعك الجميلة ؟
الرجل : ماذا فعلت هي الاخرى ؟
الدفان : لاتكن سيء الظن دائما ، مجرد استطلاع بريء ( الدفان
يأخذ اصابعه ، يتفحصها ، ( يلمس الخاتم ) اعتقد انك
تشاركني الرأي .
الرجل : في ماذا ؟
الدفان : ان الخاتم يفي بالغرض !
الرجل : ( يصرخ ... ) الخاتم ؟ لا . اعطيك أي شيء الا هذا
الخاتم !
الدفان : هذا يثبت انه على قدر كبير من الاهمية .
الرجل : بل هو شيء آخر لا يمكن ان يفهمه رأسك المعبأ بمفردات
الدفن والعظام والدود ، لا يمكن ان تملكه ، انه جزء من
اصابعي ، لن تستطيع انتزاعه .
( يأتي موظف الاستعلامات مسرعا شاهرا معوله ... )
الدفان : سنحاول .. لن نخسر شيئا .
( يهجمان عليه ، يحاولان انتزاع الخاتم من اصبعه وسط صراخه ، لكنهما يفشلان (
الرجل : ابعدا ، اتركاه ، لا .. اصبعي .
الدفان : انه لا يخرج من الاصبع فعلا . ما اروع ذلك .
الرجل : ألم اقل لك ذلك ؟
الدفان : صدقت ، انك تثير دهشتي ايها المتوفي ، لابأس . لا تقلق ،
سننتزع اصبعك والخاتم معا !
الرجل : ( بخوف ) اصبعي ... ؟!
الدفان : أجرة الدفن ، لن تمانع بالتأكيد ، هذا حق من حقوقي ، بما
ان من واجبي دفنك بالمقابل حقي يدعوني لبتر هذا الاصبع
الثمين .
الرجل : انك تهشم اجزائي ، تلك الاصابع ، انظر اليها .. بيضاء
كأن في عروقها دما ابيض .
الدفان : كلهم ناموا بلا اصابع يا جنازتي ، لــم لا تفهم ( يشير الى
القبور ) من الحماقة ان ادفنك مع الخاتم ، ادفنه لمن ؟ للدود؟
أيرضى ضميرك ان تدفن كل هذه الاموال تحت التراب ،
أي منطق غريب هذا ؟ الدود لا يلبس الخواتم .
الرجل : ما أقسى ان أصبح مشروعا دائما للتقطيع !
الدفان : سيتشرف خاتمك بأن يغفو في هذا الاصبع غفوته الابدية
( يبرز اصبعه ) انظرالى نحافته وطوله الفارع .
) يهجمان عليه ، موظف استعلامات المقبرة بمعوله ، والدفان يمسك فأسا ، نسمع صرخات الرجل وصياحه ، يقطع الاصبع ، الدفان يضع الخاتم في اصبعه ، الموظف يبدو فرحا .. ينصرف الى طاولته (
الدفان : ما أجمله ...
الرجل : ( بألم واضح يبحث كالمجنون ) أين الطريق ؟ اين ... ؟
اريد الخروج .
الدفان : تحتاج الى الف سنة ضوئية حتى تعثر على الطريق !
الرجل : انا عطشان جدا ، اريد ماء .
الدفان : كثرت طلباتك ايها الميت ، يمكنك ان تحفر .
الرجل : احفر ؟ ( يمسك المسحاة ويبدأ بالحفر ) اين ؟ هنا ؟ في هذه
الحفرة ؟ اين الماء ؟ اين انت ايها الماء ؟ الا تخرج ...
( يتوقف عن الحفر )
الدفان : اشرب يا عزيزي ، اشرب ( يعطيه حفنة من التراب )
ستشرب كل هذا بعد لحظات .
الرجل : شيء ما في احشائي يحترق .
الدفان : هناك وسيلة واحدة تستطيع بها الحصول على شيء من الماء
( يأخذ منه المسحاة ) هذه المسحاة خذها ... ( يرميها له (
الرجل : ماذا افعل بها ؟
الدفان : تضرب بها ، تقاتل ، تدافع عن نفسك وعندما تفوز تحصل
على الماء .
( يأتي موظف الاستعلامات حاملا معوله ، يتقابلان ، الرجل يمسك المسحاة ، تبدأ المبارزة باشارة من الدفان ، يتفرج بتلذذ ، نرى ان كفة النزال تصبح لصالح الموظف ، الرجل يسقط)
رائع ، رائع .. نزال رائع ، المشكلة انك تعطي نفسك حجما
اكبر منها في حين انك مجرد مجموعة من العظام المنخورة
الرجل : لاشيء يربطني بك ، لا اشبهك ، انت شيء من قرن بدائي،
حيوان منقرض ، كيف لزمنك الميت ان ينتمي لزمني الحي
( يصرخ به ) من انت ؟
الدفان : تأخرت كثيرا عن حفرتك .
الرجل : ( بحزم ) سأخرج من هنا .
الدفان : تخرج ؟ الى اين ؟
الرجل : لن ابقى لحظة واحدة هنا .
الدفان : ايمكنك الخروج ؟
الرجل : اتركني احاول فقط .
الدفان : تفضل ، حاول ، هيا .. حتى اثبت لك حسن نواياي ، اخرج
من هنا ، هيا ...
الرجل : حقا ؟ اخرج ، انا اخرج ، لا اصدق ، سأخرج ، ساخرج
( يذهب مسرعا .. يحاول تسلق الجدران ، يصيح ، يحاول ثانية
بالتسلق ، يسقط تعبا ، ينهض بصعوبة ، يأتي الى الدفان )
الدفان : انك ميت طموح ، ولكن لا مجال هنا للطموحات .
الرجل : جدران ، جدران .. صوتي لن يتخطى حاجز هذه الجدران . الدفان : والان الى الحفر ، اكمل حفرتك بيديك ، الحفرة هي المستقبل
انها ملك صرف
الرجل : احفرها بيديّ ؟
الدفان : ان تحفر حفرتك بيديك .. هذا هو قمة السمو والرفعة
والتواضع .
الرجل : لا اريد شيئا سوى الخروج .
) يأتي موظف الاستعلامات شاهر معوله (
الدفان : انظر ماذا فعلت ؟
الرجل : قل له ان يبتعد .
الرجل : لا يمكن .. انه لا يسمع ، لا يتكلم لايحس ، لايضحك ،
يبكي .. انه شيء صنع من مجموعة كبيرة من العظام
والجماجم ، شيء من اللحوم المتفسخة والدماء اليابسة ، انه
وحيد البوز ، يعيش على الجثث الطرية اللذيذة ...
( الموظف يدور حول الرجل (
الرجل : سيضربني ...
الدفان : لا جدوى من المقاومة .
الرجل : كيف احفر حفرتي .
الدفان : بالمسحاة .
الرجل : أقصد لا يمكن .
الدفان : لا شيء مستحيل ، وإلا من حفر حفر هؤلاء ( يشير الى القبور ) هم بأنفسهم ،
سأعد من الواحد الى الواحد .
الرجل : لا تعد .. انتظر ، حاول أن ...
الدفان : لا اعرف رقما سوى الواحد ، سأعد ...
الرجل : انتظر ... ( الموظف يهجم عليه ) توقف ، قل له ان يتوقف،
سأحفر ، سأحفر
الدفان : ( يشير للموظف بالتوقف ) والان سأترك لك مهمة شرف
إكمال حفرتك بنفسك.
الرجل : سأحفرها ...
الدفان : احفرها بالمواصفات التي تناسبك ، هذا كرم زائد مني .
الرجل : أين المعول ؟
الدفان : ( يعطيه المعول ) خذه .. الافضل ان تغادر هذا العالم الميت
بسرعة ( الرجل يحفر بتواصل ) خذ من الوسط ، الطول
ايضا فانت طويل القامة ، رأسك يجب ان يستقر في رقاده
الاخير ، احسنت ، تصلح ان تكون دفانا .
) ينتهي من عملية الحفر ، يبدأ الموظف بأخذ القياسات اللازمة
لحفرة الرجل (
الرجل : هل تسمح بكلمة اخيرة ؟
الدفان : كلمة ، لا . ماذا تريد ان تقول ؟ سأتكلم بالنيابة عنك ( يقوم
بدور الرجل) :
انهم يدفنونني حيا ، لا لشيء سوى انني ارفض عملية دفني
هذه ، ارفضها ولن اسكت ازاءها ، بل ارفضك ايها الدفان
الحقير ، القاسي .. الذي لم يعطني قطرة ماء واحدة ، انظروا
الى قساوة وجهه اللعين . انه لا يريد ان يصدق انني مازلت
على قيد الحياة ، ولكن روحي ستطاردك ايها الدفان ،
وسأطالب وفي قبري ان تطرد من الحياة كلها ، وان تموت
اتعس ميتة ، لن يدفنك احد ، وستظل بلا كفن . مت ايها
الجبان ، مت ايها الدفان الوضيع ، مت ، مت ، مت ...
(يصفق الدفان لنفسه بعد ان يتوقف عن اداء دور الرجل (
ها ما رأيك ؟ الجميع ملّ هذه الثرثرات ، ادخل حفرتك ايها
الميت ، سنشيعك الى مثواك الاخير تشييعا يليق بك ، افضل
من اطنان الكلمات التي لاتشتعل ولا تساعد على الاشتعال .
( يقومان بتشيعه وسط صمت مطبق ، موسيقى جنائزية تتسيد
المكان ، يدخلانه الحفرة .. بعدها يقوم الدفان بإهالة التراب
عليه بمهارة ، وعندما ينتهي يقوم موظف استعلامات المقبرة
بجلب باقة من ازاهير يضعها على القبر بكل أدب واحترام . .
ثم ينصرف بحزن )
انتهت
العراق – الناصرية
ثامن أيام الإسبوع
تأليف : علي عبد النبي الزيدي
الشخصيات
- الدفان
- الرجل
- موظف استعلامات المقبرة
- المكان : مقبرة
- ( موظف استعلامات المقبرة ) : يجلس وراء طاولة عليها مجموعة كبيرة من الاضابير والسجلات
- ( الرجل ) : داخل كيس كبير وضع في وسط المكان
) - الدفان ) : يحفر بمسحاة
- الرجل يتحرك داخل الكيس ، الدفان مستمر بالحفر ...
- يخرج الرجل من الكيس ، الدفان لا يثيره خروجه من الكيس .
الرجل : ( بصعوبة ) هل من ماء ؟
الدفان : ( يحفر بصعوبة )
الرجل : أشعر بعطش شديد .
الدفان : ( مستمرا بحفره )
الرجل : ( ينظر الى الحفرة ) يمكنني مساعدتك .. مقابل ان اشرب
الماء .
الدفان : ( يتوقف ) حقا ؟ أ يمكنك ذلك ؟ ( يعطيه المسحاة ) تفضل
احفر إذا سمحت .
الرجل : ( ينزل الى الحفرة ) أحب دائما أن أساعد الآخرين ( يحفر)
الدفان : كم أنت طيب . حاول أن تكون دقيقا يا عزيزي .. إنها
قياسات مهمة جدا .
الرجل : إنني احفر بصعوبة .
الدفان : احفر ، احفر ايها الطيب جدا ...
الرجل : وهل سنجد الماء ؟
الدفان : كل الذين حفروا هنا وجدوه ! احفر ...
الرجل : ( مستمرا بحفره ) منذ متى لم تشرب الماء ؟
الدفان : لا أتذكر .
الرجل : لا أرى أثرا له .
الدفان : احفر يا صديقي .. عملنا يتطلب الصبر والقوة . احفر .
الرجل : والى متى اظل احفر ؟
الدفان : الى ان تصبح الحفرة بالقياسات المطلوبة . يا لطيبتك التي
اخجلتني .
الرجل : شكرا لك . وهل سيخرج ؟
الدفان : كل شيء سيخرج من هنا !
الرجل : ( مستمر بالحفر ) اشعر ان الحياة قد أتعبتك كثيرا .
الدفان : الأحياء .. هم الذين يتعبونني دائما . إنهم لا يدركون ماذا
يعني الموت !
الرجل : هه .. فهمت ، انك رجل فلسفة .
الدفان : فلسفتي : إن علينا العيش بعيدا من هنا !
الرجل : أتعرف ؟ لقد أحببتك كثيرا .
الدفان : أتعرف ؟ وأنا كذلك .
الرجل : ( وهو يحفر ) ولكن أين الماء ؟
الدفان : ( ممتعضا ) ماء ، ماء ، ماء .. أي ماء ؟
الرجل : في هذه البئر !
الدفان : بئر ؟ بئر في هذا المكان ؟ كيف ؟
الرجل : هذه البئر التي تحفرها .
الدفان : من قال ذلك . هي حفرة ليس الا ، احفر ، استمر بالحفر .
الرجل : ( يتوقف عن الحفر ) حفرة ؟!
الدفان : إنها حفرتك حفرتك حفرتك حفرتك أيها الميت !
الرجل : حفرتي ؟ أيها الميت ؟ من تقصد ؟
الدفان : لا أحد هنا سواك .
الرجل : وماذا افعل بها ؟
الدفان : تفعل بها ؟ قبرك ، انها قبرك .
( الرجل يترك الحفرة ، موظف استعلامات المقبرة يأتي مسرعا الى الرجل ، يرشه بماء الورد ، ثم يقوم بإشعال الأبخرة ، ومن ثم يمشط له ، بعدها يعطيه وردة صغيرة وينصرف الى طاولته )
الرجل : ماذا يحدث هنا ؟
الدفان : ها أنت تستعد للدفن ( يشمه ) ما أطيب رائحتك .
الرجل : ( يضحك بشك ) كف عن هذه اللعبة واعطني قليلا من الماء الدفان : اطمئن .. ستكون حفرتك واسعة ومريحة .
الرجل : تبدو لصا .
الدفان : أملك قلبا يسع لكل تصريحات الموتى .
الرجل : من أنت ؟
الدفان : سترجع أيها المرحوم الى تلك الحياة الجميلة هناك ، كلنا
سنرجع ...
الرجل : من وضعني داخل الكيس ؟
الدفان : هكذا جاءوا بك .
الرجل : من هؤلاء ؟
الدفان : أحب دائما ان لا استفسر عن أشياء لا تهمني .
الرجل : ( يتفحص المكان ) ولماذا أنا هنا ؟
الدفان : ( يضحك ) واين تدفن الجثث يا عزيزي ؟
الرجل : في في في في في ... ولكنني مازلت حيا .
الدفان : عليك ان تستعد للدفن ..اترك هذه الاوهام . كما ترى بعد ان
تكتمل حفرتك سيكون كل شيء جاهزا لمراسيم دفنك ، انظر
الى حفرتك السعيدة .. انظر اليها ، هنا ستنام بهدوء ( يشير
الى الحفرة ) ومن هنا ستهاجمك جحافل الدود ، ستبدأ بعينيك
أولا ، ما أروع ذلك ، عظامك ستنتشر هنا وهنا وهنا . لن
اسمح لاي كلب بان يجرك من حفرتك ، لا أخفيك سرا ..
كلاب المقبرة هنا لها القدرة على إخراج الجثث من عمق
مائة متر !
الرجل : ( يتفحص المكان ) اشعر أنني في مقبرة ، أو هي شيء من
هذا القبيل .
الدفان : ليلة البارحة رأيت عشرة كلاب تجرجر فخذا ، أشعر بالعار
والخزي لأنني لم استطع انقاذه ( يهمس باذنه ) خفت ان
اكون انا الآخر فخذا لأنيابها !
الرجل : أكل هؤلاء موتى ( يشير الى القبور ) زحام شديد ، أين
يمكن ان اكون ؟
الدفان : حدثني احد الكلاب .. ان توزيع الجثث يتم بطريقة غير
عادلة ...
الرجل : ( ينادي ) هل من احد هنا ؟ هـــــــي .. أنتم ...
الدفان : ( متواصلا ) أنا ادعو دائما الى المساواة ، لا فرق عندي بين
كلب وآخر ، نحن أسرة واحدة متماسكة ، كل مشاكلنا نحلها
بالنباح ، اقصد بالطرق الديمقراطية ، بالحوار مع الاخر ،
بالشفافية ، بالمصادقية ، بالمظاهرات السلمية ، بالاحشاء ،
بالعظام بالاعتصامات ، بـ ....
الرجل : قبور ، موتى ، جثث ، سراديب .. من انت ؟
الدفان : أنا أقدر تماما كل الكلاب ، ماذا تفعل عندما يداهمها الجوع ،
الجثث هنا منتشرة وبكثرة ، عندما تكون سببا في انقاذ
كلب ، فهذا يكفي لان تشعر بالكبرياء .
الرجل : وما الذي تريده مني ؟ لغتك لا افهمها .
الدفان : اطمئن ، سأحرسك حتى يأكلك الدود وينتهي ، لا يمكن ان
نعقد مقارنة بين الدود والكلاب ، الفرق شاسع بالمفهوم
الانساني .
الرجل : هل نمت كثيرا ؟ واين كنت ؟ في أي يوم نحن ؟
الدفان : في يوم جميل وسعيد .
( موظف الاستعلامات يقوم بقياس حجم الحفرة ، بعدها يقيس طول الرجل وعرضه ، ثم ينصرف ليسجل الارقام في سجل كبير جدا (
الرجل : من أنت ؟
الدفان : د .. فـ .. ا .. ن ...
الرجل : دفان ؟ دفان لمن ؟
الدفان : سؤال تافه . لموتى هذه المقبرة ، العمل متوفر هنا ، اعرفهم
كلهم بأسمائهم وتواريخ دفنهم ، هذان الذراعان تشرفتا بحفر
جميع هذه القبور ( يشير الى القبور ( .
الرجل : أ تسمح أن تقول لي .. كيف اخرج من هنا ؟
الدفان : تخرج ؟ من أين ؟
الرجل : من مقبرتك .
الدفان : الى اين ؟
الرجل : الى بيتي ؟
الدفان : الموتى لا يخرجون من هنا أبدا .
الرجل : لست بميت .
الدفان : كل الجثث تحاول الفرار من قبضة الموت بحجة الحياة .
الرجل : ولماذا ترفض أن أكون حيا ؟
الدفان : الحفرة هي عالم الأحياء الأبيض ، الهادئ ، الجميل ،
الرحب...
الرجل : إذا كان الأمر هكذا لـــم لا تدفن نفسك ؟
الدفان : ومن يدفنكم أيها الأحبة ؟ من يهيل التراب الناعم على
أجسادكم الرقيقة ؟ من يحرسكم من الكلاب ؟
الرجل : أنا افعل هذا بدلا عنك .
الدفان : لا يمكن .. انك لا تعرف حتى كيف تمسك المعول ، لايمكن
أن تكون دفانا ، هذا العالم ليس بعالمك على الإطلاق ، دع
الحياة الحقيرة لنا نحن الحقراء واذهب الى النعيم .
الرجل : لا أتذكر سوى أنهم أخذوني وانا نائم على سريري ، ولا
اتذكر سوى سياطهم التي زرعوها في جسدي ، بعدها نسيت
حتى اسمي .
الدفان : ما اروع ذلك ! ماذا فعلت لهم لكي يأتوا بك الى هنا ، يدك
الناعمة ( يلمسها ) ما اجمل هذا الخاتم !
الرجل : لم ارث من أبي سواه .
الدفان : دفنك لا يعني إطلاقا دفن تراث الآباء معك ، انا احترم تراث
الشعوب .
الرجل : لغتك الباردة تبحث دائما عن حكايا ساخنة ، هل ابدو حكاية
ايها الدفان تتسلي فيها وتطفئ بها رغباتك المستعدة لدفن
العالم كله .
الدفان : انها لغة خاصة ، خاصة ، لكوني من عائلة مقبرية مهنتها الدفن ، نولد في المقابر ، بين القبور تضعنا أمهاتنا ، نَدفنُ ونُدفنَ
فيها ، جدي كان دفانا بارعا .. الجثة يقوم بدفنها بلمح
البصر ، أبي كان فنانا في دفن الجثث الجماعية ، أولادي
توزعوا على مقابر المدينة كلها ، يؤدون دورهم الإنساني
والجليل خدمة للإنسان وتطلعاته الحفرية. الرجل : عائلة
مشرفة . والآن هيا أخرجني من هنا ، لا تكن قاسيا هكذا
(يصرخ به ) أنا عطش جدا .
الدفان : والدفن ؟
الرجل : دفن من ؟
الدفان : دفنك !
الرجل : ( يضحك ) ما زلت حيا صدقني .
الدفان : ولــم لا تصدق انك ميت ؟
الرجل : تعال واسمع نبضات قلبي ، اسمعها .
الدفان : أكاذيب لن تنطلي عليّ .
الرجل : كما ترى وتسمع ، اتحرك ، اتكلم ، افعل أي شيء تريد .
الدفان : كل هذه الجثث ( يشير الى القبور ) كانت تتحرك ، تتكلم ،
لكنها في نهاية المطاف دفنت ، دفنت يا جنازتي العزيزة .
الرجل : الموتى لا يتكلمون .
الدفان : تخريف ، كل ليلة أسهر انا وهؤلاء الموتى ، نعقد حوارا ،
نتجادل ، نتشاجر ، نغني ، نرقص ، هم الأحياء فقط ،
فقط ... !
الرجل : أ يحدث هذا كل يوم ؟
الدفان : في مثل هذا اليوم فقط ، يأتونني بجثة طازجة ، يعطونني
أجرة الدفن وينصرفون ، كثيرا ما تركوني بلا أجرة ، لكنني
كنت آخذ أجرتي بطريقتي الخاصة .
الرجل : أجرة ، ميت ، جنازتي ... لــم لا تدعني اخرج بدلا من
هذه الثرثرة ؟
الدفان : يا للحزن .. نسوك بلا أجرة دفن !
الرجل : إنني اخاطب فيك انسانيتك ، قد تبدو انسانا .. أخرجني من
هنا .
الدفان : يترتب على هذا النسيان ان أبيع أحد فخذيك ، أو ذراعيك
( يتفحصه ) لاشيء فيك مغر ، ملابسك رثة ، ربما افكر
كيف استفيد من احشائك او الصالح منها للعمل .
الرجل : أ لديك خريطة للطريق ؟
الدفان : تخريف آخر .. أسمعت بجثة هربت من قبرها ؟ شيء
مضحك ( للقبور ) هل سمعتم انتم بذلك ؟
الرجل : كيف اثبت لك بانني لست بميت ؟ هل انت اعمى ؟ حسنا ،
ما رأيك بالصراخ ، سأصرخ ( يصرخ ) آآآآآآووووو ..
ها ما رأيك ؟
الدفان : انظر الى هذا القبر ( يشير الى احد القبور ) ظل صاحبه قبل
ليلتين يصرخ حتى الفجر وهو يركض هنا ويركض
ويركض ويركض ودفنته وهو يركض .. كانت دفنة تراثية
الرجل : لا تملك سوى مفردات لا تلتقي بما يحمل رأسي من
مفردات، كيف احاورك ؟( يهمس له ) ما رأيك ببعض النقود الدفان : أجرة الدفن تقصد ؟
الرجل : لا .. انها من اجل ان اخرج من هنا .
الدفان : رشوة ؟
الرجل : أتعابك .
الدفان : شكرا لأساءتك .. هذه هي نهاية العالم ، لتتهدم كل القبور ،
لينهض الموتى القدماء .. لكي يروا باعينهم التي اكلها الدود
الى أي قعر سحيق وصلت اليه اخلاق الموتى الجدد ، رشوة؟
أ يمكن لمثلي ان يخون شرف مهنته ؟ ( يبكي بقوة )
الرجل : ماذا ينفعك وجودي هنا ؟
الدفان : ( يتوقف عن البكاء ) لا تهمني المنافع الشخصية بقدر ما
يهمني واجبي . لقد وجدت هنا لكي أدفن ، ووجدت انت هنا
لكي تدفن ، انا وانت كالقطة والخروف لا نستطيع ان
نستغني عن بعضنا الاخر .
الرجل : قطة وخروف ؟! ابحث لك عن لعبة اخرى ارجوك .
الدفان : أيرضيك ان اصبح عاطلا عن العمل ؟ لا يرضيك . اذن
ادخل حفرتك بهدوء ايها المتوفي .
الرجل : تتكلم بجدية ؟
الدفان : كلكم تتصورونني مهرجا .
الرجل : لن اسمح لك بلمسي .
الدفان : لن ألمسك ، بل سأدفنك ، أدفنك برفق ، لن تشعر بثقل التراب الرطب ، اخترت لك وسط هذا الزحام الخانق حفرة تليق بك . الرجل : إذن أنت جاد فعلا في دفني حيا ؟
الدفان : حيا ؟ لــــم هذه الصورة البشعة التي ترسمونها لي ، انا
اعمل فقط ، هذه هي طبيعة عملي ، كيف أدفنك حيا ؟ كيف ؟
في حياتي الحفرية كلها لم أجرؤ على دفن فأر واحد ما زال
على قيد الحياة .
الرجل : حاول فقط ان تتأكد من صحة معلوماتك ، أنا ارفض أن
أكون ميتا ، وسأظل ارفض وارفض وارفض ...
الدفان : من حقك جدا ان ترفض يا صديقي الميت ، حقك ، ارفض ،
ارفض وبصوت عال ، ولكنها مضيعة للوقت ، انك لا
تحترم الوقت ، والى مَ تظل رافضا يا ميتي ؟
الرجل : الى ان اجد نفسي حيا .
الدفان : لن تجدها ايها المرحوم ، كريهة هي الحياة ، لها رائحة لا
تطاق . الكل موتى يا عزيزي .
الرجل : انهم احياء .. لكنك تتخيل ان كل شيء ميت لانك انت
الميت، لانك لا تريد ان تخرج من مفردات هذه المقبرة ،
لانك لا تدري ان هناك حياة خارج هذا المكان ، لانك لم
تسمع يوما بالعصافير ! لانك ...
الدفان : كلمات سمينة قد تؤدي الى غسل دماغي الوسخ ( بحزم )
اسمع .. فضل كبير مني ان يجد امثالك شبرا واحدا في هذه
المقبرة ، انظر ، اضطر دائما ان ادفن جثة فوق جثة فوق
جثة فوق جثة . لا احد يقدر هذا العمل المبدع ابدا .
الرجل : سأموت من العطش ايها المبدع .
الدفان : وهذه من ضمن الاشياء التي تتخيلها !
الرجل : كيف أتخيل العطش ؟ كيف ؟
الدفان : كل من يدخل الى هذه المقبرة فهو ميت ويلزم دفنه بسرعة .
الرجل : ( صارخا ) انا حي ، وسأظل حيا ، وسأصرخ بانني حي ،
حي ارزق ، انا حي حي حي حي حي ...
الدفان : تعودت ان اسمع هذه المفردة البائسة ( بامتعاض ) حي .
الرجل : أحملك المسؤولية كاملة في محاولة دفني حيا ، انا املك
الرغبة بالاستمرار ، هل تفهم ؟
الدفان : يا للحزن .. انت تريد الاستمرار ، وهؤلاء ( يشير الى
القبور ) كانوا يريدون الاستمرار ( يصرخ به ) وانا اريد
الاستمرار .. فمن يدفن اذن ؟ من ؟ هل تبقى المقابر بلا
قبور؟ بلا جثث طرية طازجة ؟ أ ترضى ويرضى ضميرك
الميت ان يموت الدود جوعا لا لشيء سوى انك تريد
الاستمرار ( يبكي ) ألا تملك ذرة رحمة في قلبك ؟
الرجل : ( مع نفسه ) يبدو انني في ورطة كبيرة .
( يقفز موظف الاستعلامات مسرا ، يسلم الدفان كفنا )
الدفان : عليك الان ان تخلع ثيابك وترتدي كفنك بنفسك .. هل هناك
اعظم من هذه الحرية ؟ هل هناك انبل من احترامي لحقوقك
الخاصة ؟ هل وجدت يوما في حياتك من يحاورك ويحترم
افكارك ؟ خذ كفنك .
الرجل : لست بحاجة الى كفن .
الدفان : لا يمكن ان تدفن عاريا ، ألا تستحي ؟ خذ كفنك وكن
مرحوما عاقلا .
الرجل : ( بتقزز ... ) ابتعد عني ، ابعده ...
الدفان : الحرية ان تحترم افكار الاخرين . عنادك يضحكني ، انه
رداؤك الجميل .
الرجل : ابتعد ، لا تلمسني ، انك تثير قرفي ، ما اقذرك ...
الدفان : شكرا لهذا الاطراء .. جثة متعبة .
( يعطي اشارة الى موظف الاستعلامات الذي يهب بغضب شاهرا معوله ، يهدد به الرجل تارة واخرى يحاول ضربه)
الرجل : سيضربني ...
الدفان : ستخلع ثيابك قطعة قطعة وبهدوء .
الرجل ): صارخا به ) حتى ثيابي تختارها لي وبذوقك انت .. ابتعد
عني .
الدفان : سأعد من الواحد الى الواحد .. بعدها يغرز معوله في
صدرك ، اود ان اهمس في اذنك : ان المعول سيخرج من
ظهرك مباشرة .
الرجل : لا أريد ان اخلع ثيابي .. لا اريد .
الدفان : تخجل ؟
الرجل : لا اريد فقط .
الدفان : سأعد ...
الرجل : انتظر قليلا ، فقط اسمعني .
( موظف الاستعلامات يحاول الهجوم عليه رافعا المعول )
الدفان : سأعد ...
الرجل : لا تعد ، توقف ، حاول ان تفهم .
الدفان : سأعد ...
الرجل : سيضربني هذا الارعن .
الدفان : سأعد ...
( الموظف يهم بضربه)
الرجل : ســ .. سأخلع ( يصرخ ) سأخلع ، سأخلع ملابسي ، سأخلع من اجل ان تظل انت مرتديا ثيابك .
الدفان : قطعة قطعة وبهدوء ...
الرجل : ( يبدأ بخلع ملابسه بألم واضح ، يرميها غاضبا ، موظف الاستعلامات يجعله يرتدي الكفن بطريقة عنيفة )
الدفان : انك الان ميت حقيقي ، جنازة غادرت عالمها المزيف ،
التافه الى عالم البياض. ارقصي يا جثتي رقصتك البرزخية
، ولترقص معك كل الجماجم والعظام والاعمدة الفقرية ،
ارقصي ايتها المقبرة .. ها هو ابنك الجميل قادم اليك .
اعزفي يا شواهد ، غنّي ايتها القبور .
( موظف الاستعلامات يجمع ملابس الرجل ويعود الى مكانه)
الرجل : لا افهم قاموس كلماتك ، باية لغة يمكن ان اتحدث معك ؟ لم
اكن لأكون هنا ، ولم اكن لتكون روحي ما بين مسحاتك
والمعول ، اتركني انا وقدميّ نمشي بلا توقف ، نبحث ،
نصرخ بلا اوراق رسمية او تبعات .
الدفان : أشم رائحة خطورة في كلماتك ، رفض ، احتجاج ، استنكار
.. لابأس . لنتحدث بما هو اهم : ماذا تقترح ان نأخذ منك
بدل اجرة الدفن ايها الفقيد الراحل العزيز ... ؟
الرجل : كفّ عن اطلاق الصفات كما تشاء .
الدفان : لقد مللت الاذرع والسيقان ، وسئمت الجماجم والعظام ،
وكرهت الاحشاء والبلاعيم ، لا تقل لي خذ كلية او عينا او
معدة .. مللت من كل هذا ( ينظر الى اصابعه ) هل تسمح
بأن ألقي نظرة على اصابعك الجميلة ؟
الرجل : ماذا فعلت هي الاخرى ؟
الدفان : لاتكن سيء الظن دائما ، مجرد استطلاع بريء ( الدفان
يأخذ اصابعه ، يتفحصها ، ( يلمس الخاتم ) اعتقد انك
تشاركني الرأي .
الرجل : في ماذا ؟
الدفان : ان الخاتم يفي بالغرض !
الرجل : ( يصرخ ... ) الخاتم ؟ لا . اعطيك أي شيء الا هذا
الخاتم !
الدفان : هذا يثبت انه على قدر كبير من الاهمية .
الرجل : بل هو شيء آخر لا يمكن ان يفهمه رأسك المعبأ بمفردات
الدفن والعظام والدود ، لا يمكن ان تملكه ، انه جزء من
اصابعي ، لن تستطيع انتزاعه .
( يأتي موظف الاستعلامات مسرعا شاهرا معوله ... )
الدفان : سنحاول .. لن نخسر شيئا .
( يهجمان عليه ، يحاولان انتزاع الخاتم من اصبعه وسط صراخه ، لكنهما يفشلان (
الرجل : ابعدا ، اتركاه ، لا .. اصبعي .
الدفان : انه لا يخرج من الاصبع فعلا . ما اروع ذلك .
الرجل : ألم اقل لك ذلك ؟
الدفان : صدقت ، انك تثير دهشتي ايها المتوفي ، لابأس . لا تقلق ،
سننتزع اصبعك والخاتم معا !
الرجل : ( بخوف ) اصبعي ... ؟!
الدفان : أجرة الدفن ، لن تمانع بالتأكيد ، هذا حق من حقوقي ، بما
ان من واجبي دفنك بالمقابل حقي يدعوني لبتر هذا الاصبع
الثمين .
الرجل : انك تهشم اجزائي ، تلك الاصابع ، انظر اليها .. بيضاء
كأن في عروقها دما ابيض .
الدفان : كلهم ناموا بلا اصابع يا جنازتي ، لــم لا تفهم ( يشير الى
القبور ) من الحماقة ان ادفنك مع الخاتم ، ادفنه لمن ؟ للدود؟
أيرضى ضميرك ان تدفن كل هذه الاموال تحت التراب ،
أي منطق غريب هذا ؟ الدود لا يلبس الخواتم .
الرجل : ما أقسى ان أصبح مشروعا دائما للتقطيع !
الدفان : سيتشرف خاتمك بأن يغفو في هذا الاصبع غفوته الابدية
( يبرز اصبعه ) انظرالى نحافته وطوله الفارع .
) يهجمان عليه ، موظف استعلامات المقبرة بمعوله ، والدفان يمسك فأسا ، نسمع صرخات الرجل وصياحه ، يقطع الاصبع ، الدفان يضع الخاتم في اصبعه ، الموظف يبدو فرحا .. ينصرف الى طاولته (
الدفان : ما أجمله ...
الرجل : ( بألم واضح يبحث كالمجنون ) أين الطريق ؟ اين ... ؟
اريد الخروج .
الدفان : تحتاج الى الف سنة ضوئية حتى تعثر على الطريق !
الرجل : انا عطشان جدا ، اريد ماء .
الدفان : كثرت طلباتك ايها الميت ، يمكنك ان تحفر .
الرجل : احفر ؟ ( يمسك المسحاة ويبدأ بالحفر ) اين ؟ هنا ؟ في هذه
الحفرة ؟ اين الماء ؟ اين انت ايها الماء ؟ الا تخرج ...
( يتوقف عن الحفر )
الدفان : اشرب يا عزيزي ، اشرب ( يعطيه حفنة من التراب )
ستشرب كل هذا بعد لحظات .
الرجل : شيء ما في احشائي يحترق .
الدفان : هناك وسيلة واحدة تستطيع بها الحصول على شيء من الماء
( يأخذ منه المسحاة ) هذه المسحاة خذها ... ( يرميها له (
الرجل : ماذا افعل بها ؟
الدفان : تضرب بها ، تقاتل ، تدافع عن نفسك وعندما تفوز تحصل
على الماء .
( يأتي موظف الاستعلامات حاملا معوله ، يتقابلان ، الرجل يمسك المسحاة ، تبدأ المبارزة باشارة من الدفان ، يتفرج بتلذذ ، نرى ان كفة النزال تصبح لصالح الموظف ، الرجل يسقط)
رائع ، رائع .. نزال رائع ، المشكلة انك تعطي نفسك حجما
اكبر منها في حين انك مجرد مجموعة من العظام المنخورة
الرجل : لاشيء يربطني بك ، لا اشبهك ، انت شيء من قرن بدائي،
حيوان منقرض ، كيف لزمنك الميت ان ينتمي لزمني الحي
( يصرخ به ) من انت ؟
الدفان : تأخرت كثيرا عن حفرتك .
الرجل : ( بحزم ) سأخرج من هنا .
الدفان : تخرج ؟ الى اين ؟
الرجل : لن ابقى لحظة واحدة هنا .
الدفان : ايمكنك الخروج ؟
الرجل : اتركني احاول فقط .
الدفان : تفضل ، حاول ، هيا .. حتى اثبت لك حسن نواياي ، اخرج
من هنا ، هيا ...
الرجل : حقا ؟ اخرج ، انا اخرج ، لا اصدق ، سأخرج ، ساخرج
( يذهب مسرعا .. يحاول تسلق الجدران ، يصيح ، يحاول ثانية
بالتسلق ، يسقط تعبا ، ينهض بصعوبة ، يأتي الى الدفان )
الدفان : انك ميت طموح ، ولكن لا مجال هنا للطموحات .
الرجل : جدران ، جدران .. صوتي لن يتخطى حاجز هذه الجدران . الدفان : والان الى الحفر ، اكمل حفرتك بيديك ، الحفرة هي المستقبل
انها ملك صرف
الرجل : احفرها بيديّ ؟
الدفان : ان تحفر حفرتك بيديك .. هذا هو قمة السمو والرفعة
والتواضع .
الرجل : لا اريد شيئا سوى الخروج .
) يأتي موظف الاستعلامات شاهر معوله (
الدفان : انظر ماذا فعلت ؟
الرجل : قل له ان يبتعد .
الرجل : لا يمكن .. انه لا يسمع ، لا يتكلم لايحس ، لايضحك ،
يبكي .. انه شيء صنع من مجموعة كبيرة من العظام
والجماجم ، شيء من اللحوم المتفسخة والدماء اليابسة ، انه
وحيد البوز ، يعيش على الجثث الطرية اللذيذة ...
( الموظف يدور حول الرجل (
الرجل : سيضربني ...
الدفان : لا جدوى من المقاومة .
الرجل : كيف احفر حفرتي .
الدفان : بالمسحاة .
الرجل : أقصد لا يمكن .
الدفان : لا شيء مستحيل ، وإلا من حفر حفر هؤلاء ( يشير الى القبور ) هم بأنفسهم ،
سأعد من الواحد الى الواحد .
الرجل : لا تعد .. انتظر ، حاول أن ...
الدفان : لا اعرف رقما سوى الواحد ، سأعد ...
الرجل : انتظر ... ( الموظف يهجم عليه ) توقف ، قل له ان يتوقف،
سأحفر ، سأحفر
الدفان : ( يشير للموظف بالتوقف ) والان سأترك لك مهمة شرف
إكمال حفرتك بنفسك.
الرجل : سأحفرها ...
الدفان : احفرها بالمواصفات التي تناسبك ، هذا كرم زائد مني .
الرجل : أين المعول ؟
الدفان : ( يعطيه المعول ) خذه .. الافضل ان تغادر هذا العالم الميت
بسرعة ( الرجل يحفر بتواصل ) خذ من الوسط ، الطول
ايضا فانت طويل القامة ، رأسك يجب ان يستقر في رقاده
الاخير ، احسنت ، تصلح ان تكون دفانا .
) ينتهي من عملية الحفر ، يبدأ الموظف بأخذ القياسات اللازمة
لحفرة الرجل (
الرجل : هل تسمح بكلمة اخيرة ؟
الدفان : كلمة ، لا . ماذا تريد ان تقول ؟ سأتكلم بالنيابة عنك ( يقوم
بدور الرجل) :
انهم يدفنونني حيا ، لا لشيء سوى انني ارفض عملية دفني
هذه ، ارفضها ولن اسكت ازاءها ، بل ارفضك ايها الدفان
الحقير ، القاسي .. الذي لم يعطني قطرة ماء واحدة ، انظروا
الى قساوة وجهه اللعين . انه لا يريد ان يصدق انني مازلت
على قيد الحياة ، ولكن روحي ستطاردك ايها الدفان ،
وسأطالب وفي قبري ان تطرد من الحياة كلها ، وان تموت
اتعس ميتة ، لن يدفنك احد ، وستظل بلا كفن . مت ايها
الجبان ، مت ايها الدفان الوضيع ، مت ، مت ، مت ...
(يصفق الدفان لنفسه بعد ان يتوقف عن اداء دور الرجل (
ها ما رأيك ؟ الجميع ملّ هذه الثرثرات ، ادخل حفرتك ايها
الميت ، سنشيعك الى مثواك الاخير تشييعا يليق بك ، افضل
من اطنان الكلمات التي لاتشتعل ولا تساعد على الاشتعال .
( يقومان بتشيعه وسط صمت مطبق ، موسيقى جنائزية تتسيد
المكان ، يدخلانه الحفرة .. بعدها يقوم الدفان بإهالة التراب
عليه بمهارة ، وعندما ينتهي يقوم موظف استعلامات المقبرة
بجلب باقة من ازاهير يضعها على القبر بكل أدب واحترام . .
ثم ينصرف بحزن )
انتهت
العراق – الناصرية
عدل سابقا من قبل علي عبد النبي الزيدي في الجمعة أكتوبر 22, 2010 2:24 am عدل 1 مرات
الإثنين أبريل 01, 2013 8:40 am من طرف غزوان قهوجي
» غزوان قهوجي
الإثنين أبريل 01, 2013 8:36 am من طرف غزوان قهوجي
» مختبر فضا المسرحي
الأربعاء فبراير 13, 2013 8:44 am من طرف غزوان قهوجي
» مهرجان لمسرح الشباب العربي في بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:07 am من طرف غزوان قهوجي
» مهيمنات ( السلطة ) وتنويعاتها الإسلوبية في بعض عروض مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:02 am من طرف غزوان قهوجي
» مقالة جميلة عن مولانا
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:50 am من طرف غزوان قهوجي
» خبر عن مشاركة الفرقة في مهرجان بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:39 am من طرف غزوان قهوجي
» أم سامي
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:10 pm من طرف همسة حب
» حدث في سوريا : دعوى قضائية شد الله !!!!!
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:06 pm من طرف همسة حب
» حكايا طريفة
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:01 pm من طرف همسة حب
» السر بشهر العسل
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:56 pm من طرف همسة حب
» عندما يتفلسف الحمار
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:53 pm من طرف همسة حب
» حكمة : كن نذلا تعيش ملكاً ........!!!
الثلاثاء نوفمبر 06, 2012 2:44 am من طرف همسة حب
» فــوائـد الـزوجــة الـنـكـديــة
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:21 am من طرف همسة حب
» شو كان لازم يعمل ؟
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:18 am من طرف همسة حب