في عرضه آخر ساعة، المقدم على خشبة مسرح الدراما في دار الأسد للثقافة والفنون بدمشق، يعلن المخرج التونسي عز الدين قنون تمرده على الموت، كي يتحدث عن الحياة، ولكن أي حياة هي التي استطاعت شخصية نجمة التحدث عنها وتجسيدها، إن نجمة ـ ليلى طوبال-، تشعر أنها ستموت بعد ساعة من الآن، ولذلك تعمد إلى تأجيل الموت لبضع هنيهات كي يتسنى لها سرد شريط حياتها، عبر استحضار كل من كانت لهم محطات هامة في حياتها الماضية. إنها رحلة افتراضية إذاً، أما متاعها فهو مجموعة من المشاعر المضطربة، بين ما كان وما ينبغي أن يكون من حياة قلقة عاشتها نجمة، مع أب متسلط، وعاشق متردد، ومربية زنجية فقيرة، وأخ لاهٍ يحمل أفكاراً فوضوية ولا يعنيه في الحياة سوى موسيقا الراب، فهو تجسيد لأبناء جيله الذين هزمتهم الحياة قبل أن يخوضوا غمارها أو يكتشفوها. أما نجمة فهي تمثّل تجربة مختلفة عن الجميع، كونها تمردت على قيم يراها الآخرون أبدية وأزلية، في حين رأتها هي بالية ويجب تجاوزها بأن تحررت من مستبقات المجتمع ضد المرأة، وعلى نفسها كامرأة، ولكن كحال أي محاولة من لدن الإنسان للتذكر، فإن ذاكرته تتقطع وتتشظى لنتف غير مترابطة منطقيا، حيث يتم التركيز دوما على الذكريات الأكثر تأثيرا وحفرا في وجدان الشخص، وهذا ما حصل مع نجمة التي أرادت أن تخاطب جميع من ترك أثرا في حياتها، ولذلك كنا نراها كالهائم على وجهه بحثا عن نفسه. لقد تبنى العرض قضية نجمة، وسعى المخرج عز الدين قنون إلى توظيف تلك الذاكرة الإرجاعية في دراسة علاقة الممثل مع الخشبة والفضاء، من خلال علاقته مع الشخصية، وذلك التجريب هو محاولة جديدة تضاف إلى تجارب سابقة قائمة على أداء الممثل وعلى الجسد، وعلى الفعل المسرحي، فهو يربط دوما بين أداء الممثل والفضاء. ولكن كيف تم الربط بين أقصى أنواع التجريب ابتعادا عن التقليد المسرحي الواقعي، وأقصى الواقعية في تناول المجتمع، بمعنى آخر حاول المخرج أن يوجد وشائج ما بين التجريدي والمعيّن، وهي مفارقة صارخة ومتناقضة، ولا يكفي أن نعبر عنها بأسلوبية خاصة في الأداء فقط، أو بحوادث منتقاة وافتراضية. حيث اُعتمد على بناء تلك الثيمات والأفكار حركيا، عبر ابتعاد الممثل عن الآخر، تعزيزا لفكرة التباعد الذهني والفكري في الوعي بين الجميع، وقد حاول تخديم بناء تلك المفارقات بجهده الدائب على منح كل شخصية الحق بالتعبير عن ذاتها على طريقتها، من خلال الحركة والسرد، أي الوصول إلى التجريد بعلاقة استبدالية بين الدلالة والمحتوى أو المعنى. وهنا لابد من تسليط الضوء على قدرة هذه الأسلوبية الفنية، على توصيل التجربة إلى مبتغاها، والتي نراها عجزت عن تحقيق أهدافها، والسبب في ذلك يعود إلى المغالاة في محاولة جمع النقائض وحشرها في بناء قسري من المفاهيم والأفكار المسبقة الصنع، فما تم افتراضه مسبقا من عدم تواصل، جرى دفعه عنوة نحو حمل ما لا يمكن حمله دلالياً، ففي فكرة عدم التواصل والتي تم التعبير عنها تجريبياً، من خلال العلاقة المأزومة بين الممثل والآخر، بإبعاد الجميع عن الجميع مكانياً فقط، أي أن الحكاية لم تقدم نفسها بنفسها ولم تمنح تلك الشخوص عدا نجمة، الفرصة للتعبير عن مكنوناتها، والسبب في ذلك يعود إلى تلك الطريقة في تغييب حضورهم المادي والجسدي، واستبدالها باستحضارهم، فذلك الاستحضار أغفل حقائق، وجلب حقائق أخرى انتقائية عبر النمذجة، فالأب والأخ والعشيق والمربية، كانوا أنماط تفكير أكثر من كونهم بشراً من لحم ودم. بمعنى أن أولئك قد سيقوا عنوة إلى حيث تتم محاكمتهم ومحاكمة أفكارهم، وقد كانت نجمة هي السارد والقاضي معاً. وفي هذا حكم غيابي على منطق حياة لم يتسن لنا أن نختبره، ولم يمنح الحق في الدفاع عن نفسه، حيث ما واجهه فقط هو الإدانة الكاملة وإطلاق الأحكام جزافاً. اعتمد المخرج على الشرطية، لأن الهام في عرض آخر ساعة لم يكن الحدث الدرامي، وإنما أداء الممثل على الخشبة وضمن مستويات الفعل المتعددة، والتي توزعت على ثلاثة مستويات، حيث اقتصر أداء العشيق والأب، في المستويين الأعلى والأسفل، اللذين برزا على الخشبة من خلال الحفرة العميقة في الخلفية، والتي احتوت أيضا على السلالم العالية، وفي هذا دلالة واضحة على الإدانة، فهما قد ظهرا متعاليين حيناً، من خلال صعودهما على تلك السلالم، وفي ذات الوقت وجودهما في الأعلى يوحي بتسلطهما على نجمة، وهو تسلط الفكر الغيبي والمعتقدات والمفاهيم البالية، أما صعودهما من الأسفل فإنه يؤسس للجحيم الذي عاشته نجمة معهما، وأيضا كتعبير عن موقعهما في نفسها، وهو موقع مرذول ومرفوض. في حين اقتصر وجود نجمة والمربية والأخ على أرضية الخشبة، فهم كائنات ارضية وضحايا بذات الوقت، ولذلك استوجب وضعهم على نسق مكاني ومعرفي واحد. إلا أن الأمر الهام هنا هو دراسة أسلوبية الأداء الجماعي المنطلقة من الواقعي نحو التجريبي وبطريقة عشوائية، والتي عانت من دمج الأداء المؤسلب لكلا شخصيتي الأب والعشيق مع الواقعي، أما الثلاثة الآخرون فكان أداؤهم واقعياً بالكامل من حيث الحس الداخلي للشخصية، ومن حيث الحركة المسرحية، مما جعلنا أمام ثنائية غير منطقية، وتجافي الافتراض الأولي للعرض. إن الدراماتورجية التي اعتقد المخرج أنه يقرأ من خلالها واقع الصراعات الاجتماعية في مجتمعه، واجهت بضعة مثالب، منها أولا أن اختيار المواقف الحياتية المتنوعة بشكل انتقائي، لم يلب الغرض منها، بسبب السرد السطحي لعدة حوادث غير ذات أهمية، مما أدى لإطالة أمد العرض والتي بلغت قرابة الساعتين، يضاف إلى ذلك أن مواقف الشخصيات الواضحة والمنتهية قد أدت لذلك الإيقاع الواحد والرتيب، والذي أثر عليه سلباً البطء في حركة الممثلين وردود أفعالهم أيضاً.
مواضيع مماثلة
دخول
بحـث
المواضيع الأخيرة
أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
غزوان قهوجي - 439 | ||||
Rasha - 322 | ||||
ابراهيم الحداد - 160 | ||||
احمد الحرفي - 158 | ||||
Rawane araishy - 86 | ||||
وسام قهوجي - 53 | ||||
مازن الديراني - 27 | ||||
ضياء الخليل - 21 | ||||
همسة حب - 20 | ||||
مصعب خلف - 18 |
الإثنين أبريل 01, 2013 8:40 am من طرف غزوان قهوجي
» غزوان قهوجي
الإثنين أبريل 01, 2013 8:36 am من طرف غزوان قهوجي
» مختبر فضا المسرحي
الأربعاء فبراير 13, 2013 8:44 am من طرف غزوان قهوجي
» مهرجان لمسرح الشباب العربي في بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:07 am من طرف غزوان قهوجي
» مهيمنات ( السلطة ) وتنويعاتها الإسلوبية في بعض عروض مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:02 am من طرف غزوان قهوجي
» مقالة جميلة عن مولانا
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:50 am من طرف غزوان قهوجي
» خبر عن مشاركة الفرقة في مهرجان بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:39 am من طرف غزوان قهوجي
» أم سامي
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:10 pm من طرف همسة حب
» حدث في سوريا : دعوى قضائية شد الله !!!!!
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:06 pm من طرف همسة حب
» حكايا طريفة
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:01 pm من طرف همسة حب
» السر بشهر العسل
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:56 pm من طرف همسة حب
» عندما يتفلسف الحمار
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:53 pm من طرف همسة حب
» حكمة : كن نذلا تعيش ملكاً ........!!!
الثلاثاء نوفمبر 06, 2012 2:44 am من طرف همسة حب
» فــوائـد الـزوجــة الـنـكـديــة
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:21 am من طرف همسة حب
» شو كان لازم يعمل ؟
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:18 am من طرف همسة حب