عندما يكون النص المسرحي شكلا تعبيريا أدبيا فقط معنى ذلك أن ثمة حاجة ماسة ، لإغناءه بالملامح الفنية ليكون أكثر إثارة وتأثيرا في المتلقين ، لكن من يقوم بهذه الوظيفة ؟ من الطبيعي والمنطقي أنه المخرج ذلك الشخص المفكر والفنان الذي يمتلك القدرة على تنظيم حركة الممثلين والأحداث وتنسيق الحوار ( المونولوج الخارجي ) والحوار الداخلي ( المونولوج الباطني ) والهدف من كل ذلك بناء عرض مسرحي جمالي ، يستقطب مخيلة الجمهور وعاطفته وعقله ويتيح له القدرة على التفاعل مع المضمون الذي يحتوي عليه النص المسرحي .
لن تتوقف وظيفة المخرج على مجرد صياغة الأحداث وبناء الشخصيات ، إنما تتجسد وظيفته الفنية والتعبيرية في التفنن في رسم الملامح الفنية العامة للمسرحية ويطلق إسم السينوغرافيا على هذا الدور الذي يقوم به ، وهو دور مؤثر وكبير جدا .
إن المخرج ينتقي بالتعاون مع المختصين والفنيين نوع الإضاءة والديكور والإكسسوار والأزياء والموسيقى التصويرية ، لتكتمل الصورة التعبيرية الفنية للمسرحية ، وتجد استحسانا وآذانا صاغية لدى المتلقين ، فالهدف من كل ذلك إيصال فكرة ما ومحاولة إقناع المتلقين بجدواها ومنطقيتها ، ولنفترض أن الفكرة قد تكون أخلاقية تتضمن التمييز بين السلوك الشاذ كالجريمة مثلا والسلوك السوي الذي يتمثل مثلا في البراءة والسلم الاجتماعي ، فالدراما المسرحية الناجحة هي التي تتمكن من ترسيخ جذور كراهية وبغض السلوك الشاذ في نفسية المتلقين ، بينما تعمل في الوقت ذاته على خلق حب وعشق السلوك المستقيم والنافع لدى المتلقين ، لكن هل يمكن التأثير في اتجاه الجمهور المتلقي بسرعة وسهولة عبر المدونة المسرحية المجردة ؟ إن الفكرة المجردة التي يحتوي عليها النص المسرحي ؛ لن تجد صدى كبيرا في عقل الجمهور ما لم تجد مقومات فنية وجمالية ودرامية سواء عبر صياغة وبناء حركة الممثلين التي يطلق عليها مصطلح ( الميزانسين Mecan sean ) أو ما يسمى فن الإخراج المسرحي وهو أسلوب فني يستخدمه المخرج لتصوير الحدث ، إضافة إلى طريقة إلقاء الممثلين التي تصف الحدث ، التي يساهم المخرج كثيرا في صناعتها ، وبموجب الحركة والحوار الأساسيين يبرز النص المسرحي بصورة فنية موحية باعثا في فضاء الجمهور وشخصيته طاقة التفاعل الفني والأدبي ، من خلال نقل وترسيخ الفكرة في ذهن الجمهور مهما كان نمطها ما دامت تجد قبولا واستعدادا لهضمها ، من هنا تأتي الأهمية الكبرى لفن المسرح والمسرحية التي يعيش المتلقون أحداثها بشكل مباشر ودون وسيط ، فتراهم يشاركون الممثلين الحدث عبر مشاعرهم وعواطفهم وعقولهم ، بهذا يكون الفرق كبيرا مابين المدونة المسرحية الأدبية التي تصلح كشكل ومضمون درامي مسرحي والمدونات الأدبية الأخرى التي تقل أهمية وقيمة أدبية وفنية عن المدونة والنص المسرحي ، الذي يفوق كل أشكال الأدب وأشكال الفن ، فالرواية والقصة والقصيدة الشعرية وكل أنماط الأدب ، ستظل عاجزة عن مضاهاة النص المسرحي الدرامي ، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد بل يشمل الأنماط الفنية كالصورة السينمائية التي لا يمكنها التفوق على الصورة المسرحية الحية ؛ القادرة عبر سينوغرافيا الإخراج من استقطاب الجمهور وترسيخ جذور الوعي الثقافي والإنساني لديه ، فلنتصور أن ثمة شريرا بلا وازع أخلاقي قد حضر عرضا مسرحيا تحث فكرته الرئيسية على تبني القيم الخيرة ونبذ القيم السلبية الهدامة ، فعلى الأرجح أنه سيتخلى عن شخصيته الشريرة ، ثم يتقمص الشخصية الخيرة ، من هنا يتبين الدور التغييري والإصلاحي الاجتماعي والمدني والثقافي الكبير ؛ الذي يؤديه فن المسرح عندما يكون مسرحا ملتزما ، وليس مسرح قيم هابطة يتاجر رموزها بضمير الجمهور واتجاهه الأخلاقي .
يجتهد المخرج كثيرا ويوظف كل إمكانياته الفنية والأدبية ويستثمر مساحة خياله الواسعة لصنع مسرحية تترك بصماتها الواضحة والسريعة على شخصية الجمهور ، فالهدف الأساسي هو إحداث التغيير الثقافي في اتجاه الجمهور وميوله ، ودفعه باتجاه التخلي عن بعض الأفكار والمشاعر والعواطف السلبية الضارة اجتماعيا ، لذلك تتبين قيمة الدافع الذي يقف وراء اندفاع الجمهور عقب نهاية بعض العروض المسرحية ، للقيام بتظاهرة سياسية وثقافية ، وهذا ما حدث تاريخيا ، وفي هذه التظاهرة يدعوا المشتركون فيها الأنظمة الحاكمة المستبدة إلى إيجاد سبل للتغيير ، وإعادة النظر في العديد من السلوكيات السياسية الاستبدادية ، التي أدت إلى خلق العديد من المشكلات الاجتماعية أو الاقتصادية .
إن أي عرض مسرحي يشهد عقب نهايته التقليدية حدثا من هذا النمط فمعنى ذلك أنه عرض ناجح جدا ، وأنه لم ينته بل بدأ بالفعل ، فمثلما يتقمص الممثلون الأدوار المسندة إليهم ، يبادر الجمهور الطموح إلى تقمص دور البطولة أو دور بطل المسرحية الذي ، يتضمن التحدي والمجابهة مع كل الرموز المتخلفة عقليا وثقافيا وإنسانيا واجتماعيا ، فالمسرح الحقيقي ليس فضاءا للمتعة والترويح عن النفس ، إنما هو رسالة ومدرسة بطلها الجمهور .
إن السينوغرافيا هي علم وفن يقوم المخرج بتوظيف قواعده وقوانينه لصنع أبهى وأجمل صورة درامية مسرحية ، لأنها كما رآها المختصون في فن المسرح تتضمن جملـــــة من الحقـول العلميـة المتعلقــة بـذات الاختصـاص مثل :
1- الهندسة المعمارية ( architectural Engineering ) 2 - الهندسة الإنشائية ( structural engineering ) وتتضمنان بناء المشاهد ضمن أطر فنية محددة تعبر عن الشيء أو الهيكل الذي يمثل المناخ العام ، الذي يوحي بالفكرة التي ترتكز عليها المسرحية .
3- ( الصورة المرئية ) ( Visible Picture ) الصـورة الثابتـــة (Fixed Picture ) و ( الصــورة المتحركـــة ( Movable Picture وهي أنماط من الصور التي تتجسد في الخلفية الثابتة تبعا للمشهد ومضمونه ، عاكسة جزءا مهما منه لكي يتمكن المتلقي من تصور الحدث وأشخاصه بصورة أسهل .
4- ( الإدراك الحسـي (Perception ) ويبدأ من الممثلين وينتهي لدى الجمهور أو العكس فالمسرحية بأحداثها تمثل حافزا يحث الاثنين على التفاعل معا لصنع الحدث وتصور ثيماته الأدبية والفنية .
5-( الإحاطة بـ ( الحجـوم والمسافـات ) ( Volumes and Distances ) وهي عملية فنية ذهنية تدخل ضمن التصور الفني ، حيث بواسطتها يتمكن الجمهور من إعطاء الحجوم والمسافات حقها الطبيعي في التصور الذهني ، حسبما هو ظاهر منها من خلال المشهد العام .
6 - المنـاخ التاريخـي ( Historical Climate ) وهو التعبير الحي والحيوي عن زمن الأحداث وتتابعها والبدايات والنهايات وتطور الشخصيات الخيرة ونضوجها وتكاملها الفني ، والسقوط المعنوي أو المادي للشخصيات الشريرة ، بالنسبة للنصوص المسرحية التي تعبر عن الصراع الساخن ما بين الطرفين المتضادين أو المتناقضين .
7- العوامل التقنيـة (Technical Factors ) وهي العناصر أو الوسائل التي تحتوي على أحدث التقنيات في مجال المؤثرات الصوتية والضوئية المطلوبة والمهمة في استكمال البعد الدرامي للمسرحية .
8- علــم الرياضيــات (Mathematics ) ويستعين به المخرج ليرسم بواسطته التوازن بالنسبة للمكان والزمان اللذين يتكامل بهما الحدث والممثل معا ، سيحولهما إلى معادلات رياضية أما ذات نهايات وحلول حتمية ،أو بلا حلول حينما تكون بعض النهايات لغزا يصعب تفكيكه وتحديد مضمونه .
9- ( هندسة المسافات(Engineering Distances ) وهنا تدخل الأبعاد والمقاييس الهندسية في التصوير الفني للنص المسرحي ، ويتم توظيف الأشكال الهندسية سواء في حركة الممثلين أو في نصب الديكور ووضع الإكسسوار ، فكل شيء يجب أن يحسب بدقة متناهية ولا مجال أبدا للحركة العشوائية .
نخلص مما قلناه أن فن المسرح والمسرحية وجد قوة تأثيره ليس فقط في سينوغرافيا المخرج والإخراج المسرحي ، بل في طبيعته الاتصالية لأنه وسيلة من وسائل الاتصال المهمة التي تدعى وسيلة الاتصال المواجهي ، فالفكرة تنتقل مباشرة إلى الجمهور في صورة الحوار وحركة الأجساد بمشاركة بقية الفنون الأخرى ، فتتركب كلها بواسطة السينوغرافيا المسرحية ، وهو الفن الذي يمسك بخيوطه الرئيسية المخرج سيد العمل وقطبه الرئيسي .
الإثنين أبريل 01, 2013 8:40 am من طرف غزوان قهوجي
» غزوان قهوجي
الإثنين أبريل 01, 2013 8:36 am من طرف غزوان قهوجي
» مختبر فضا المسرحي
الأربعاء فبراير 13, 2013 8:44 am من طرف غزوان قهوجي
» مهرجان لمسرح الشباب العربي في بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:07 am من طرف غزوان قهوجي
» مهيمنات ( السلطة ) وتنويعاتها الإسلوبية في بعض عروض مهرجان بغداد لمسرح الشباب العربي
الجمعة نوفمبر 23, 2012 4:02 am من طرف غزوان قهوجي
» مقالة جميلة عن مولانا
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:50 am من طرف غزوان قهوجي
» خبر عن مشاركة الفرقة في مهرجان بغداد
الجمعة نوفمبر 23, 2012 3:39 am من طرف غزوان قهوجي
» أم سامي
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:10 pm من طرف همسة حب
» حدث في سوريا : دعوى قضائية شد الله !!!!!
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:06 pm من طرف همسة حب
» حكايا طريفة
الإثنين نوفمبر 12, 2012 7:01 pm من طرف همسة حب
» السر بشهر العسل
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:56 pm من طرف همسة حب
» عندما يتفلسف الحمار
الإثنين نوفمبر 12, 2012 6:53 pm من طرف همسة حب
» حكمة : كن نذلا تعيش ملكاً ........!!!
الثلاثاء نوفمبر 06, 2012 2:44 am من طرف همسة حب
» فــوائـد الـزوجــة الـنـكـديــة
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:21 am من طرف همسة حب
» شو كان لازم يعمل ؟
الإثنين نوفمبر 05, 2012 5:18 am من طرف همسة حب